تاريخ مصر القديمة في عالم نجيب محفوظ الروائي
في ذكرى ميلاده الـ107 التي تحل 11 ديسمبر "العين الإخبارية" تستكشف عوالم محفوظ الأدبية المستلهمة من الحضارة الفرعونية
شكل تاريخ مصر القديم عند الأديب والروائي نجيب محفوظ أهمية خاصة في تشكيل وعي وملامح مشواره الأدبي، لاسيما في محطته الأولى في بداية الثلاثينيات؛ تلك الفترة التي مثلت بعث وإحياء الهوية المصرية على يد الأب الروحي لها سلامة موسى الضاربة في جذور الحضارة المصرية القديمة، وأنتجت رافدا من روافد محفوظ الروائية مثل: رواية "عبث الأقدار" 1939، و"رادوبيس" 1943، و"كفاح طيبة" 1944، و"العائش في الحقيقة" 1985.
كانت لثورة 1919 محطة مهمة في كفاح المصريين للتخلص من الاستعمار والتبعية، والبحث عن الهوية المصرية الضاربة في جذور حضارتها التاريخية القديمة، لتنشأ وتشكل جيلا باحثا عن هويته الثقافية والحضارية وصياغة وعي أدبي وفني ضارب بجذوره في فجر الضمير، والتي أثرت في نشأة طفولة نجيب محفوظ الذي كان في عمر 8 سنوات آنذاك، في حي الحسين التاريخي.
وعند بلوغه فترة شبابه وتحديدا في مرحلة الدراسة الثانوية، زاده الشغف والولع بتاريخ مصر القديم، فقام بترجمة كتاب "مصر القديمة" للعربية، وأرسلها إلى الأستاذ سلامة موسى رائد الهوية المصرية لنشرها، وبالفعل تم إصدار الكتاب في دار نشر سلامة موسى عام 1932، وكان ترجمة الكتاب باكورة أعمال محفوظ ورحلته الأدبية في تاريخ وحضارة مصر القديمة، والتي جذبته في المرحلة الجامعية، حيث نهل من مكتبة كلية الآثار وأساتذة وعلماء المصريات، والتي شكلت المصدر والمرجع لكتابات محفوظ التاريخية بعد ذلك.
ثلاثية التاريخ المصري القديم في أدب نجيب محفوظ:
إذا كانت ثلاثية محفوظ الشهيرة "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية" التي برع في سرد التاريخ المصري في الفترة ما بين مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات منه، والتي كتبها في الفترة ما بين (1956 1957) فإن ثلاثية "عبث الأقدار"، "رادوبيس"، "كفاح طيبة "، والتي تأثرت بتاريخ مصر القديم وحضارته، هي الأقدم في عمر مشواره الروائي، حيث كتبها في الفترة ما بين (1939 – 1944)
كانت رواية "عبث الأقدار" باكورة ثلاثية محفوظ التاريخية، حيث كتبها عام 1939، والتي تدور قصتها في فترة "بناة الأهرام"، والتي بدأت في الفترة مابين 2980 ق.م- 2750ق.م، وهي الفترة التي شهدت معجزة مصر الأثرية والحضارية؛ وهي أهرامات الجيزة الشهيرة وخاصة هرم خوفو الأكبر، حيث كان الاسم الأصلي للرواية هو "حكمة خوفو"، والتي تأثرت بقصة خوفو والسخرة التي جاءت في بردية "وستكار"، حيث تتصارع رغبة الملك خوفو في الحكم مع حكم القدر في زوال ملكه لصالح الأسرة الخامسة التي جاءت من بعده.
أما الرواية الثانية في ثلاثية محفوظ التاريخية، هي: "رادوبيس" عام 1943، نسبة إلى "رادوبيس" التي جاءت على لسان المؤرخ اليوناني سترابو، والتي جاءت في الأدب العالمي بعد ذلك باسم "سندريلا"، هي في الأصل أسطورة مصرية قديمة جاءت في بردية" شستر بيتي" في عصر الأسرة 19، تحكي عن فتاة اسمها رادوبيس ابنه سنفرو، والتي أحبت شابا في صباها لكنه تخلى عنها، فتزوجت ثريا عجوزا وورثت أمواله بعد وفاته، وكانت حسناء المنظر تهافت عليها رجال المملكة وجمعها مع الملك علاقة غرامية في قصرها، انتهت لثورة الشعب عليه بمقتل الملك وانتحارها.
الرواية الأخيرة في الثلاثية كانت "كفاح طيبة" 1944، والتي تحكي قصة كفاح شعب مصر في سبيل استرداد حريته وهويته من الهكسوس اللذين استوطنوا مصر في نهاية الأسرة الثالثة عشر حتى نهاية الأسرة السابعة عشرة لمدة ثلاث قرون، حتى استطاع الملك أحمس هزيمتهم، وطردهم من مصرا تماما وتتبعهم حتى غزة، في إشارة واضحة ومباشرة لكفاح المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي من أجل استرداد حريته وهويته المسلوبة.
إخناتون بعيون نجيب محفوظ
أخيرا وبعد انقطاع تأثير تاريخ مصر القديم في أدب محفوظ طوال أربعين عاما، عاود التأثير ليسجل مرحلة جديدة في مشوارة الأدبي وعالمه الروائي في حقبة جديدة من تاريخ مصر، وليعود مرة أخرى في منتصف الثمانينيات لحنينه وعشقه الأول وهو تاريخ مصر وحضارتها القديمة من خلال رواية "العائش في الحقيقة" عام 1985، والتي تحكي عن ملك مصر الشهير "إخناتون"، وصراعه من أجل تثبيت دعوته التوحيدية الجديدة مع كهنة آمون، ومساندة زوجته نفرتيتي لنشر دينه الجديد.
وهكذا ظل تاريخ مصر وحضارتها القديمة مهيمنا على مشوار الروائي العالمي نجيب محفوظ، والذي شكل وجدانه الأدبي منذ صباه بحثا عن الهوية المفقودة كشأن العديد من رواد جيله العظماء حتى السنوات الأخيرة في حياته؛ والتي صاغها في عبارته الشهيرة "مصر ليست دولة تاريخية.. مصر جاءت أولا ثم جاء التاريخ".