ناجي العلي.. رصاصة أسفل العين تمنح "حنظلة" حياة أبدية
كان لـ"ناجي العلي" مكانة خاصة لدى كبار المثقفين إذ قال عنه الشاعر محمود درويش: "فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان، سريع الصراخ"
لم يكن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي يقرأ الكف أو الفنجان؛ لكنه رسم نهايته في مخيلته بألوان الوطن. كان يدرك أن كل خط يرسمه يقربه أمتارا من نهايته، وأن ريشته ستشهد لحظة الغدر قبل سقوطها أرضا بجوار أحباره.
ترجم "العلي"- قبل زمن بعيد- في عقله الباطن شواهد الأحداث وأيقن حتمية النهاية فداء للوطن فقال ما يشبه الرثاء في نفسه مبكرا في جملة أشبه بنعي في صفحة الوفيات: «اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم فلسطين، بدو يعرف حاله ميت».
سلاح "مجهول"
ذكرى مولد ناجي العلي الـ50 كانت مختلفة تماما، فيها تلقى أسوأ ما قد يتمناه المرء. رصاصة من "سلاح مجهول" سكنت أسفل عينه اليمنى.
كان 22 يوليو/تموز 1987 تاريخا سيئا في حياة الأمة العربية، إذ كتب ذلك اليوم بداية النهاية لشهيد المقاومة ناجي العلي، الذي دخل في غيبوبة طالت لـ37 يوما انتهت باستشهاده في أغسطس من العام نفسه.
ورغم مضي 33 عاما على غياب صاحب "حنظلة"، لم يعلن حتى الآن هوية الشخص المجهول الذي أطلق الرصاص عليه، ولم يتم الكشف عن الرابط بين إجباره على الرحيل إلى لندن عام 1985 وبين حادث الاغتيال.
"حنظلة"، شخصية ناجي العلي الشهيرة، هي لطفل يبلغ من العمر 10 سنوات، ظهر لأول مرة في لوحاته عام 1969 بجريدة "السياسة الكويتية"، وهو رمز لمرحلة قاسية واستثنائية في عمر الوطن، وكان أيقونة يقف خلفها حلم العودة.
عمر "حنظلة" هو نفسه عمر ناجي العلي عندما غادر فلسطين، ولم يكن الأول ليكبر حتى يعود مبتكره إلى أرض الوطن، حينها فقط كنا سنشهد صبى وشباب ذاك الطفل.
بعد ظهور "حنظلة" عام 1969، اتخذه "العلي" بمثابة توقيع له على لوحاته، ولاقت الشخصية ثناء الجماهير العربية، كونها رمزا لصمود الشعب الفلسطيني.
ورغم استخدام "العلى" لشخصيات عدة في لوحاته لانتقاد عدد من القيادات الفلسطينية والعربية، مثل فاطمة، وشخصية جندي الاحتلال طويل الأنف، الذي يظهر مرتبكا أمام حجر صغير في يد طفل فلسطيني، إلا أنها جميعها لم تنل شهرة "حنظلة".
سخر ناجى العلي فنه لمراقبة التغيرات السياسية ولخدمة فلسطين وفضح الاحتلال. لم ينس يوما علاقته بلبنان؛ فبعد أن شهدت قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة في فلسطين مولده، عام 1937، رحل إلى لبنان في سن الـ10 واستقر في مخيم عين الحلوة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948.
شهد ناجي العلي العديد من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان؛ منها الغارات الجوية على مواقع المقاومة الفلسطينية جنوبي لبنان، ومع استمرار المقاومة؛ اجتاح الاحتلال الإسرائيلي لبنان حتى وصل بيروت عام 1982.
وعن هذه الفترة يقول "العلي" في إحدى المقابلات الصحفية: "كنت في صيدا أثناء الغزو الإسرائيلي، واجهت نفس ما واجهه الناس من رعب وخوف، وعشت أيام القصف وغارات الطيران، ورأيت الدماء والقتلى بأم العين، وبقيت في صيدا لمدة شهر بعد احتلالها، وفي تلك الأيام العصيبة لم أرسم، وحتى لو استطعت فأنا غير قادر على توصيل رسوماتي إلى الصحيفة التي أعمل بها".
قرر "ناجي" اختراق الحصار المفروض على بيروت حتى وصل إلى جريدة "السفير" التي كان أحد أفرادها في ذلك الوقت، وبدأ في بث الروح المعنوية لدى المدافعين عن بيروت لمقاومة الحصار الذي استمر 3 أشهر.
في هذه الفترة خرجت لوحته الشهيرة "صباح الخير يا بيروت"؛ إذ استخدم "حنظلة" صاحب الـ10 أعوام، وقدم من خلاله "وردة إلى بيروت التي رسمها في شكل فتاة جميلة تخرج من جدار محطم بينما يكسو الحزن عينيها.
كان لـ"ناجي"، مكانة خاصة عند كبار المثقفين والفنانين، إذ قال عنه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: "فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان، سريع الصراخ، طافح بالطعنات، وفي صمته تحولات المخيم، مفتوح على الساعات القادمة وعلى دبيب النمل وأنين الأرض، يجلس على سر الحرب وفي علاقات الخبز، خرج على العالم باسم البسطاء ومن أجلهم، شاهرا ورقة وقلم رصاص، فصار وقتا للجميع".
أما الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير المصري جورج بهجوري قال عنه: "كان يمشي كما لو كان يقفز إلى أعلى مثل الكنجارو، وكان يفلسف كل شىء أو يحوله إلى سياسة، وأخذ شخصية (حنظلة) من وحي رسمه لنفسه، حيث كان يرسم نفسه مع الكاريكاتير مثل حنظلة، في حجم (ميكي ماوس)، لكنه صنفه كرمز للنضال الفلسطيني، حتى أصبح من أشهر الكاريكاتورات العالمية".
فيما قال الأديب السعودي عبدالرحمن منيف، عن تجربته: "لا تزال رسوم ناجي العلي راهنة، وربما أكثر راهنية من الماضي، وهذا دليل على أن الفن الحقيقي والصادق له قدرة على الحياة والتجدد".
وكانت رسالة الشاعر السوري أدونيس، لروحه: "سلاما ناجي أيها الشهيد الآخر، والشاهد الآخر".