التطور التاريخي الطبيعي للمجتمعات أسهم في فرض عملية تجديد البنى المعرفية والنظرية للدولة كمفهوم سياسي اجتماعي.
ظلت إشكالية الدولة كمفهوم، وشكل نظام الحكم، هاجسا مؤرقا للمفكرين والفلاسفة على مر عصور التاريخ، وتطورت مفاهيم الدولة ونظرياتها تدريجيا، فثمة من أقام الدولة على أساس نظرية الأصل العسكري ومحورها أن الحرب تولّد الدولة وتنشئ الزعيم والمُلْك، والبعض تبنى نظرية الأصل التاريخي أو التطوري للدولة التي تقوم على فكرة أن الدولة تدرجت من جماعات متفرقة وقرى يحكمها رؤساؤها إلى دولة بصورة تدريجية باتحاد هذه الجماعات والقرى، آخرون قالوا بنظرية الأصل الديني للدولة أي أن الدولة نشأت بعمل سلطة دينية نظمتها وأوجدت القوانين وقالت إنها سماوية ثم وطدت حكمها، ليأتي جان جاك روسو بنظرية العقد الاجتماعي في أصل الدولة القائم على الاتفاق المتبادل بين الفرد والدولة، بحيث تصبح رغبة الأكثرية أو رغبة المجموع هي مظهر السيادة، وبذلك أضفى روسو الطابع الإنساني الأخلاقي على هذا الكيان السياسي والتنظيمي الواسع للمجتمع وللحياة الاجتماعية بتأكيده أن السيادة هي ملك الأمة وأن القانون يعبر عن الإرادة العامة للمجتمع، الأمر الذي يفترض اشتراك المواطنين لا ممثلين عنهم في صنع القوانين.
استمر الفلاسفة والمفكرون في إبداع كثير من النظريات لتطوير فكرة الدولة ونظام الحكم وذهب مونتسكيو إلى فكرة الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية باعتبار ذلك أفضل ضمان للحرية في الدولة.
التطور التاريخي الطبيعي للمجتمعات أسهم في فرض عملية تجديد البنى المعرفية والنظرية للدولة كمفهوم سياسي اجتماعي من خلال علاقة جدلية تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار كل مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الحضاري، وأضحت النخب الفكرية والمعرفية في مواجهة مباشرة مع تحدي تطوير هياكل الدول وبناها وكذلك الأنظمة السياسية والاجتماعية والحقوقية والإنسانية بمعناها القيمي، ضمن هذا المحددات يقع كتاب الدولة الوطنية –صناعة النهوض– للمفكر والأكاديمي الإماراتي الدكتور علي راشد النعيمي الذي يطرح فيه وبمكاشفة عميقة، خياراته الفلسفية والمعرفية والنظرية بشأن الدولة المرجوّة للمجتمعات العربية المعاصرة.
الدكتور علي النعيمي في كتابه الدولة الوطنية –صناعة النهوض– يحسم خيار جدلية أيهما الأولى: المواطنة أم الدولة الوطنية؟ لينحاز بوضوح إلى جانب فكرة الدولة ومسؤوليتها ودورها في عملية البناء وغرس قيم المواطنة لدى الشعب.
يستعرض الكاتب مفهوم الدولة في التاريخ الإسلامي وتعددها وتنوعها وهو ما يسميه بالدولة التاريخية بسبب ارتباط تمددها وتقلصها بالقوة والضعف تجاه جيرانها، إلى الدولة في الفهم المعاصر التي تعبر كما يراها الكاتب عن حالة ثابتة مستقرة محددة المعالم والشعب، وصولا إلى الدولة الوطنية، حيث ينفي أي علاقة لهذه المفهوم بالمعنى التاريخي للدولة.
يكشف الدكتور النعيمي عن أن إرهاصات وعيه بالدولة الوطنية تجلت عام 1971، حين أعلن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تأسيس الإمارات، ثم يجري مقارنة غنية بين الدولة الوطنية ودولة الخلافة "الدولة الوطنية تقوم على منظومة من الحقوق والواجبات تحددها القوانين والدساتير الوطنية التي أقسم المواطنون على طاعتها والالتزام بها، أما دولة الخلافة المتوهمة وغير المتحققة تاريخيا فتقوم العلاقة بين المواطن والسلطة فيها على الرابطة الدينية فقط - ص 28". ثم بين الدولة الوطنية والأمة الإسلامية "لابد أن نعي الفارق الكبير بين الدولة بوصفها كيانا سياسيا وقانونيا من جانب وبين الأمة بوصفها رابطة عاطفية معنوية من جانب آخر - ص 30" وكذلك بين الدولة الوطنية والدولة الطائفية؛ إذ يعرض لتاريخ الدولة الطائفية كنمط سياسي بدءا من قبل عصر الأنوار وظهور الدولة القومية.
وعند المسلمين كما في دولة البويهيين والدولة الفاطمية ودويلات القرامطة والحشاشين والزنج وصولا إلى إيران مع ثورة الخميني ليستنتج أن "الدولة الوطنية إذا هي ضد الدولة الطائفية - ص 34" ويتابع "فكرة الطائفية ذاتها والدولة الوطنية لا تتعايشان – الدولة الطائفية تقر في دستورها وقوانينها التمييز بين المواطنين بناء على الانتماء الديني – ص 35" إلى أن يصل إلى الدولة الوطنية والدولة القومية، حيث يعتبر أن ظهور فكرة الدولة القومية هو البداية الحقيقية لدخول الإنسانية في عصر الحداثة في القرن التاسع عشر في أوروبا لتؤسس لظهور دول مستقلة ذات سيادة لكل شعب من الشعوب "تجاوز العالم الغربي مفهوم الدولة القومية من خلال إعطاء الحقوق للمكونات المختلفة وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية التي تعلي مفهوم المواطنة والحقوق والواجبات وتتجاوز فكرة العرق والقومية ص - 37".
الدولة الوطنية ضرورة مستقبلية وفقا للمنهج الفكري لدى الدكتور النعيمي ولتحققها فإنه يجري على صفحات كتابه عملية تفكيك بنيوية لبنى ومناهج تيارات وجماعات الإسلام السياسي ونهجها المدمر، ويعتبر تنظيم الإخوان المسلمين الرحم الذي أنجبها جميعها لا بل وأشدها تطرفا وإرهابا.
يطوف الكاتب على تاريخ هذا التنظيم منذ نشأته الأولى عام 1928 ويقول: "نجحت جماعة الإخوان في أن تغرس في وعي أعضائها أن الجماعة فوق الشعب والوطن وأن التنظيم فوق الدولة والحكومة - ص 124" ويضيف "مفهوم الدولة عند الإخوان مفهوم افتراضي لا ينتمي للعالم الواقعي وكذلك مفهوم الأمة والشعب – ص127".
في تحليله الموضوعي لظاهرة الإخوان المسلمين وفلسفتها، يسلط الباحث النعيمي الضوء على الجانب المعرفي في تكوين ذهنية الإخونجي الفرد، والإخونجي في الجماعة، فيسوق أمثلة لكثير من ركائز تفكيرهم وأسس تنظيمهم التي تبرهن بمضامينها الذاتية على عملية الاستلاب الديني والخلقي والوطني التي يمارسونها ويطبقونها ويعادون من خلالها كل ما هو مغاير أو مناقض لهم ولنهجهم التدميري، وكيفية توظيف ما يتاح لهم من منهل الدين الإسلامي وأدبياته ونصوصه وتشريعاته للوصول إلى مبتغاهم وهي السلطة، بصرف النظر عن محددات وأساليب وطرق هذا الوصول حتى لو كانت على حساب نبل ونزاهة وقيم وعدالة الإسلام.
لا يجانب الدكتور النعيمي الصواب حين يختار دولة الإمارات العربية المتحدة عنوانا ومدخلا للفصل الخامس والأخير من كتابه "بناء الأوطان يبدأ بالتعليم" ثم يتطرق إلى التعليم وإشكالية الماضي والمستقبل، وأي نوع من التعليم مطلوب للتنمية والنهوض، ووضع ركائز الدولة الوطنية للمجتمع الناهض؟ مقابل ما تنتجه النظم التعليمية التي تركز على الماضي؟ ليأتي موقف الدكتور النعيمي حاسما بأن "التعليم يجب أن يكون للمستقبل كما هي رؤية دولة الإمارات - ص 157".
يقول جان جاك روسو: إن أي شعب مهما كانت الطريقة التي نتناوله بها، لن يكون مطلقا إلا كما ستجعله طبيعة حكومته يكون، ولهذا يطرح السؤال الكبير حول أفضل حكم ممكن؟
الدكتور علي النعيمي في كتابه الدولة الوطنية –صناعة النهوض– يحسم خيار جدلية أيهما الأولى: المواطنة أم الدولة الوطنية؟ لينحاز بوضوح إلى جانب فكرة الدولة ومسؤوليتها ودورها في عملية البناء وغرس قيم المواطنة لدى الشعب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة