"نعمات فؤاد".. بالقلم وحده هزمت مؤامرات السياسة!
90 عاما عاشتها الكاتبة والمثقفة المصرية الراحلة نعمات أحمد فؤاد (1926-2016) أنجزت خلالها ما يزيد على 50 كتابا وتتلمذ على يديها المئات
تسعون عاما عاشتها الكاتبة والمؤرخة والمثقفة المصرية نعمات أحمد فؤاد (1926-2016)، أنجزت خلالها ما يزيد على خمسين كتابا، وتخرج على يديها المئات من التلاميذ والتلميذات، والأهم والأبقى مواقف إنسانية وفكرية تشهد لها بأنها كانت ذات ضمير يقظ وشجاع، وأنها كانت تستحق بالفعل كما أطلق عليها البعض "امرأة نبيلة من مصر".
رحلت نعمات أحمد فؤاد، إحدى الرائدات الأوليات اللائي تخرجن في الجامعة المصرية، واللاتي فتحن الباب واسعا أمام الفتيات المصريات لاستكمال تعليمهن والحصول على أعلى الدرجات العلمية، وتبوؤ أرفع المناصب الأكاديمية والثقافية.. كان اسم نعمات أحمد فؤاد، مع نظيراتها سهير القلماوي وعائشة عبد الرحمن، رأس الحربة في اقتحام دراسة الآداب والنقد في كلية الآداب بالجامعة المصرية، تحت إشراف جيل من الأساتذة الرواد مثل طه حسين، وأمين الخولي، وأحمد أمين، ومصطفى السقا، ومصطفى إبراهيم، وآخرين.
تفتحت ملكات هؤلاء الرائدات، ونمت معارفهن في النصف الأول من القرن العشرين، وأخذت كل واحدة منهن تشق طريقها الذي اختارته، وكان لنعمات أحمد فؤاد مسارها البارز في الدراسة والكتابة والصحافة على السواء. قررت منذ التحاقها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، أن تكون "كاتبة"، ولأنها كانت موهوبة وغزيرة الثقافة ولديها استعداد فطري لدراسة العلوم الإنسانية والآداب، فقد اجتذبت الأنظار، وفتحت لها المجلات الثقافية في ذلك الوقت ذراعيها، فنشرت مقالاتها الأولى في "الرسالة" و"السياسة الأسبوعية" وصحف تلك الفترة، فذاع صيتها، واشتهر اسمها، وكانت من المبرزات المعروفات ولما تتخرج بعد.
عقب إنهاء المرحلة الجامعية بتفوق، واصلت نعمات أحمد فؤاد دراستها العالية، ومن واقع تأثرها الكبير بأساتذة عصرها خاصة "الزيات"، و"العقاد" و"المازني"، أنجزت أطروحتها للماجستير عن "أدب المازني"، وستكون تلك الأطروحة هي الأولى من نوعها التي تنجزها فتاة مصرية في الجامعة في تخصص "الأدب الحديث"، وكان الشائع وقتها إنجاز مثل تلك الدراسات الأولى في الأدب القديم.
وفي الدكتوراه التي حازتها بمرتبة الشرف الأولى، اختارت نعمات أحمد فؤاد موضوع "النيل في الأدب العربي"، وتكون هذه الدراسة رائدة في مجالها وكتابا مرجعيا لا يمكن تغافله أو الاستغناء عنه، وتواصل البحث في هذا الموضوع لتنجز فيما بعد كتابها الآخر "النيل في الأدب الشعبي".
وتواصل نعمات فؤاد مسيرتها المتألقة، كأستاذة أكاديمية رصينة، وكاتبة مرموقة، معروفة وذائعة الشهرة، غزيرة الإنتاج وافرة المؤلفات، لكن هناك ودائما محطات فاصلة في حياة الإنسان، يكون ما قبلها مفارقا ومغايرا لما بعدها، وهذا بالضبط ينطبق على نعمات أحمد فؤاد في سبعينيات القرن الماضي، حينما تصدت بمفردها وبقلمها وحده، لواحد من المؤمرات الدنيئة التي تحاك طيلة الوقت ضد مقدرات الوطن، وتاريخه وتراث وآثاره، تصدت بشجاعة حقيقية ونبل إنساني وافر لما سمي في وقته بتطوير هضبة الأهرامات، والذي كان في الحقيقة مشروعا رأسماليا متوحشا من آثاره المباشرة الإضرار بالآثار المصرية القديمة في تلك المنطقة وعلى رأسها الأهرامات الثلاثة وأبو الهول.
نجحت نعمات أحمد فؤاد وبقلمها وحده في التصدي لهذا الطوفان، وتوقف المشروع ونجت الأهرامات، وحفظ التاريخ اسم نعمات فؤاد بحروف من نور. ولم يقف بها القلم حد هذا الدور العظيم، بل واصلت الدفاع عن استعادة الآثار المصرية المنهوبة من سيناء إبان فترة الاحتلال الإسرائيلي لها، وتصدت لمشروعات أخرى، وخاضت المعارك، الواحدة تلو الأخرى، بروح لا تعرف اللين، وإرادة لا تعرف الخور، وعزيمة لا تعرف الضعف.
كل ذلك، كان بموازاة نشاطها المعرفي والثقافي الذي لم يتوقف، كتابة وتأليفا، لتترك عددا ضخما من الكتب الرائعة في مجالات عدة: "شخصية مصر" الذي كتبته بإلهام واستيحاء من الجغرافي المصري الشهير جمال حمدان، وكتبت "القاهرة في حياتي"، و"في بلادي الجميلة"، و"إلى ابنتي"، و"الإسلام والحضارة الإنسانية"، و"الإسلام وإنسان هذا العصر"، و"أعلام في حياتنا" و"أعيدوا كتابة التاريخ"..
أما في مجال الفن وتاريخ الغناء، فلن ينسى جمهورها الأصيل دراساتها الفريدة وكتبها الممتازة عن أم كلثوم وأحمد رامي، كانت نعمات فؤاد من عاشقات سيدة الغناء العربي، وكانت من القليلات اللاتي تتبعن جماليات غناء أم كلثوم، كلماتٍ وألحانا وأداء وطربا، وسجلت كل ذلك بقلمها وأسلوبها في كتابها الشهير "أم كلثوم ـ عصر من الفن"، وفي صنوه عن الشاعر أحمد رامي "أحمد رامي ـ قصة شاعر وأغنية". سيبقى كتاب نعمات فؤاد عن أم كلثوم شاهدا على "عصر من الفن" و"الجمال" و"الثقافة الرفيعة".
ولنعمات أحمد فؤاد، رؤية حضارية وثقافية تقوم على الوسطية والاعتدال سجلت ملامح هذه الرؤية في أكثر من كتاب، لعل أشهرها "آفاق إسلامية" (عن المكتبة الأكاديمية)، و"الإسلام وإنسان العصر ـ العودة إلى المنبع"، تقول في ذلك: "ولكني أريد وسط هذه التيارات الزاخرة، أن نتفاعل مع الحياة، إلى جانب قيمنا الأصيلة.. نحن أصحاب حضارة عريقة تعيش في أعماقنا، فلا ضير أن نتفاعل مع الحضارة الحديثة في تماسك يحفظ علينا شخصيتنا المصرية العربية الشرقية، حتى لا يجرفها التيار فتضيع، كما أن المحافظة التي أعنيها لا تتعارض مع رغبتنا المخلصة في أن ننمي شخصيتنا، وأن نطورها، وأن ننفض عنها غبار القرون والأحداث"..
يهمد الجسد وتصعد الروح، ويبقى الإنجاز والمعرفة الأصيلة والإنتاج الرفيع..