انعقدت في مدينة جدة السعودية يوم الجمعة الماضي القمة العربية الـ32. وشاركت فيها دولة الإمارات بوفد ترأسه سمو الشيخ منصور بن زايد آ ل نهيان نائب رئيس دولة الإمارات نائب رئيس مجلس الوزراء وزير ديوان الرئاسة، نيابة عن رئيس دولة الإمارات صاحب السمو الشيخ محمد
واتساقاً مع المشاركة الإماراتية الرفيعة والفعالة، تضمنت القمة العربية ظواهر وملامح جديدة لم يشهدها العالم العربي منذ سنوات يتعلق أبرزها، بالإطار العربي وطبيعة العلاقات داخل المنظومة العربية. حيث كان حضور سوريا القمة ممثلة في الرئيس بشار الأسد المشهد الأبرز والأهم في القمة. باستعادة دمشق مقعدها في الجامعة بعد غياب اثني عشر عاماً متصلة.
جاءت مشاركة سوريا في قمة جدة بعد سلسلة تفاهمات جرت بين الدول العربية المحورية وعلى رأسها دولة الإمارات التي كانت أول دولة تدعو إلى عودة سوريا، وكانت الأسبق في التحرك عملياً بهذا الاتجاه، فأعادت تشغيل السفارة الإماراتية في دمشق عام 2018، ثم مباشرة لقاءات وزيارات رفيعة المستوى وصلت مؤخراً إلى مستوى القمة بين قيادتي البلدين، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات حفظه الله، والرئيس السوري بشار الأسد. وبعد اتصالات ومشاورات تحضيرية لعبت الإمارات دوراً محورياً فيها، توافقت الدول العربية على أن تكون قمة جدة تتويجاً لجهود استعادة سوريا إلى إطارها العربي الطبيعي متمثلاً في الجامعة العربية.
ومن المهم هنا الرجوع إلى كواليس ودهاليز تلك الخطوة المهمة بالنسبة لسوريا وللمنطقة ككل. وخصوصاً ما شهدته اللقاءات والاجتماعات الوزارية التي جرت قبل القمة بأيام استعداداً لانعقادها وتحضيراً لجدول أعمالها. فقد شهدت تلك الاجتماعات رؤى متنوعة بشأن خطوة عودة سوريا إلى الجامعة، من حيث المبدأ وكذلك التوقيت وأيضاً التحفظات أو الضمانات المطلوبة. ولم يعد سراً أن دولاً عربية كانت متحفظة على المبدأ، قبل أن يتم التوافق على تطبيق مبدأ "خطوة مقابل خطوة".
لذلك من المهم عند قراءة مجريات ونتائج قمة جدة التوقف عند تلك الروح العربية الجديدة. فمنذ عقود لم يشهد العمل العربي المشترك تلك الإيجابية والمرونة المتبادلة. والتي انعكست عملياً في إمكانية التفاهم والتوفيق بين توجه مخالف للموقف العربي العام، بدون تعنت أو تعمد لتعطيل المسار، مقابل تقدير الأغلبية لتلك المرونة بمراعاة الهواجس والاعتبارات وراء ذلك التوجه المخالف.
من جديد القمة أيضاً، ذلك البعد العالمي المتمثل في مشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وفي تلك المشاركة دلالة عميقة لجهة مستويات وفاعلية التحرك العربي إزاء التطورات العالمية، وتزداد الدلالة خصوصية بالنظر إلى أن الأزمة الأوكرانية هي الحدث الأهم في العالم منذ بداية الألفية، أي على مدار عقدين كاملين، وربما لسنوات أخرى قادمة. ومن ثم فإن استضافة الجامعة العربية للرئيس الأوكراني خلال فعاليات القمة، هو دليل جديد على تلك الفعالية والتأثير المتزايد للدول العربية على المستوى العالمي. وأقول إنه دليل "جديد" لأن أزمة أوكرانيا تحديداً شهدت منذ اندلاعها أدلة متتالية على وضعية العرب وثقلهم في المعادلات العالمية، بدءاً من الحياد الإيجابي تجاه طرفي الأزمة من يومها الأول.
ونستذكر هنا أن دولة الإمارات كانت تترأس مجلس الأمن في الأسابيع الأولى للأزمة، ولعبت دوراً دبلوماسياً محايداً وفعالاً في نفس الوقت، لتطويق الأزمة وإبطاء مفاعيلها العسكرية وخسائرها المتعددة.
وبشكل عام، كان دور دول الخليج أساسياً في كل مراحل الأزمة وتفاعلاتها، خاصة على المستويين السياسي والاقتصادي. وكانت المواقف الخليجية خصوصاً والعربية عموماً، مؤشراً مهماً لظهور روح عربية جديدة، وتبلور سياسات عربية مختلفة تنطلق من رؤى وتقديرات عربية خالصة، وتتبنى مواقف موضوعية عقلانية وأدوات عملية وفعالة.
وتأتي مشاركة رئيس أوكرانيا في قمة جدة في صميم هذا التوجه العربي الجديد. فقد سبق للعرب والخليجيين خصوصاً، الانفتاح والتواصل بل إبرام تفاهمات مهمة مع روسيا، شملت كل المجالات المهمة في العلاقات وكذلك في القضايا المطروحة بما فيها أزمة أوكرانيا. وبالتالي فإن التوازن والحياد الإيجابي العربي تجاه الأزمة وطرفيها، توَّجته دعوة فولوديمير زيلينسكي للمشاركة في القمة، ومقابلها الاستماع إلى كلمة وجهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقادة والزعماء العرب المشاركين في القمة.
ويعيدنا هذا إلى مسألة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، فقد اتخذ العرب قرارهم وأعيدت سوريا إلى الجامعة، رغم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رفضها لتلك الخطوة. بل إن واشنطن وهي تبدي تحفظها على القرار العربي، أكدت "تفهمها" للقرار العربي. وهو ما يسهل على أي مراقب فهمه كمحاولة أمريكية لتجنب الحرج السياسي والدبلوماسي جراء التحرك العربي الحاسم والمستقل.
جديد آخر مهم في قمة جدة العربية، وهو أن التوجه العربي الجديد نحو المصلحة فقط ووفق حسابات عقلانية وموضوعية، ليس وليد اللحظة، وإنما بدأ تدريجياً منذ فترة. والجديد هو التبلور والتجسيد في قرارات وخطوات أقرتها وباشرتها القمة العربية. ما يعني من زاوية أخرى أن الجامعة العربية لم تعد هيكلاً جامداً أو مهملاً، وإنما عادت منبراً مسموعاً ومؤسسة عربية جامعة يتجه إليها العرب للتواصل والتفاهم والعمل تحت مظلتها الجامعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة