هذه السياسة كانت في الأساس سبب انفجار العلاقات بين تركيا وكل الدول العربية باستثناء قطر
أضافت تركيا بلداً آخر إلى قائمة "الأعداء". لم تكن أنقرة بحاجة إلى كل هذا الضجيج حول موقف للرئيس اللبناني ميشال عون بمناسبة مرور مئة سنة على إعلان "لبنان الكبير"، فردّت عليه بما يفتقد إلى أدنى الأصول والتهذيب في العلاقات الدولية.
أشار عون في رسالته إلى أن محاولات التحرر من النير العثماني كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية، واصفاً ما مارسه العثمانيون على اللبنانيين بأنه "إرهاب دولة" أفضى إلى آلاف الضحايا خلال الحرب العالمية الأولى، والذين سقطوا بالمجاعة والتجنيد والسخرة.
هذه السياسة كانت في الأساس سبب انفجار العلاقات بين تركيا وكل الدول العربية باستثناء قطر، ولم ينقص كما يقال سوى أن تخسر تركيا لبنان الذي يرفد السياحة في تركيا بعشرات آلاف السياح
لم تتأخر تركيا عبر وزارة خارجيتها في الردّ ببيان غير "دبلوماسي" ومن ثم أتبعه المسؤول في حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك، بتصريح أكد مضمون البيان الصادر عن الوزارة ولم يخفف منه.
اعتبر بيان الخارجية التركية أن كلام الرئيس اللبناني كان "كيدياً ومغرضاً وغير مسؤول"، وأدانته "بأشد العبارات"، ولكن ما ورد لاحقاً في البيان يستحق التوقف عنده.
1 تعرض البيان للرئيس عون بشكل شخصي مباشر، فوصف كلامه بأنه "هذيان" و"يفتقر إلى الوعي"، وأن عون "يحب الخضوع للاستعمار". وهكذا تتجاوز الخارجية التركية الخطوط الحمراء في مخاطبة رؤساء الدول متعرضة لهم بالكلام الشخصي بما لا يمكن قبوله تحت أي ظرف من الظروف بمعزل عمن هو رئيس لبنان. فأن تصف رئيساً لبلد آخر بأنه "يهذي" فهذا يفتقر إلى كل اللياقة في التخاطب الدبلوماسي، وهو تعد ليس على شخص عون؛ بل على كل المواطنين والبلد الذي يشكل رأساً له ورمزاً، كذلك فإنها صفات لا تنطبق بجميع الأحوال على ميشال عون. ويذكر هذا التهجم الشخصي بما كان تعرض له سابقاً رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، على يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
2 لقد حاكم عون حقبة من تاريخ لبنان والمنطقة ولم يتعرض حتى بالاسم لحكام الدولة العثمانية في نهاية عمرها عشية وأثناء الحرب العالمية الأولى، وهذا نقاش مطلوب وليس من المحرمات، وقد تجد من يتفق مع عون ومن لا يتفق في هذه المحاكمة، لكنها تبقى في إطار الاجتهاد التاريخي، علماً بأن الواقع الذي سرده عون ليس سوى حقائق دامغة على سلوك جماعة "الاتحاد والترقي" بحق كل المعارضين للسياسات الطورانية لتركيا حينها، والتي أنتجت حروباً وفتناً ومجاعات وسخرة، واضطهدت كل من يخالف سياساتها من الأقليات والجماعات من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، وحتى داخل منطقة الأناضول نفسها، وهذه السياسات المغامرة والمتزمتة والعنصرية هي التي أودت بالدولة العثمانية إلى الانهيار.
3 من اللافت في بيان الخارجية التركية تأكيده وافتخاره واعتزازه بأن الجمهورية التركية هي وريثة الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي تبرير دفاعه عن سلوكيات الدولة العثمانية.
وهذا يتنافى مع القانون الدولي، حيث إن معاهدة لوزان صفّت حسابات تركيا مع ماضيها، كما أن تأسيس الجمهورية التركية وإلغاء السلطنة وحتى إلغاء الخلافة، وضع حداً فاصلاً بين مرحلتين، وكذلك فإن تعميم الكلام على الجمهورية التركية في بيان الخارجية ليس علمياً، حيث إن فئة سياسية محددة يمثلها اليوم بعض من قيادات حزب العدالة والتنمية هي التي تعتبر نفسها استمراراً للدولة العثمانية، بينما الأغلبية من الشعب التركي وقواه السياسية لا تعتبر نفسها معنية بمرحلة ما قبل تأسيس الجمهورية.
4 كذلك فإن افتخار واعتزاز البيان بأن تركيا هي وريثة الدولة العثمانية، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن السياسة "العثمانية الجديدة" التي رفعها ولا يزال حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة، هي سياسة رسمية تهدف إلى إحياء الحقبة العثمانية، وإعادة الهيمنة على المنطقة العربية ومنها لبنان، وهذه السياسة كانت في الأساس سبب انفجار العلاقات بين تركيا وكل الدول العربية باستثناء قطر، ولم ينقص كما يقال سوى أن تخسر تركيا لبنان الذي يرفد السياحة في تركيا بعشرات آلاف السياح الذين يضخون، وفقاً للإحصاءات التركية، مليار دولار كل عام في خزينة "العثماني الجديد".
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة