في كل مرة تستشيط "أنقرة" تصريحات جوفاء يتلوها زيارة لموسكو أو لقاء على مستوى وزراء خارجية البلدين ثم تعود بعدها الجعجعة التركية للهدوء
كلما زادت الأمور تعقيداً وأصبحت الأحلام السلطانية في الدائرة الضيقة طار الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى موسكو باحثاً عن الحلول وهذا هو العنوان الأبرز لزيارة "أردوغان" لروسيا عقب التطورات على الساحة السورية وتقدم القوات النظامية على حساب قوى المعارضة في الريف الشمالي لحماة ووصولها إلى الريف الجنوبي في "إدلب" وهو الخاضع للفصائل المدعومة بالكامل من قبل حكومة العدالة والتنمية الحاكمة في أنقرة، وما أسفر عن ذلك من محاصرة نقاط المراقبة التركية، ولا سيما النقطة التاسعة، مما أربك السلطان الذي طار بنفسه وعلى وجه السرعة إلى موسكو؛ من أجل بحث التطورات الأخيرة والتحذير من الكوارث الإنسانية.
ما دفع "بوتين" إلى إطعام "أردوغان" "الآيس كريم" والتصريحات الطيبة الباردة ليس لهيب شمس موسكو وهي المدينة الباردة، وإنما لهيب شمس الواقع، ولكن المأسوف عليه أنها ستكون في أفواه الجميع طيبة باردة رخيصة الثمن إلا على السوريين الذين يدفعون ثمنها دماءً ووطناً.
اتسمت الزيارة التي قام بها أردوغان على رأس وفد تركي والتي التقى خلالها بالوفد الروسي برئاسة بوتين بجملة من الدلالات السياسية التي حملتها التصريحات المتبادلة، بالإضافة إلى الرمزيات التي سبغت مجريات الزيارة، وذلك من خلال التصرفات التي قام بها الرئيسان، وقد تناولتها وسائل الإعلام بأدق تفاصيلها في محاولة لقراءة الأبعاد الرمزية لكل تفصيل منها، بدءاً من الورود البيضاء التي كانت بين الرئيسين وانتهاءً بتقديم "بوتين" الآيس كريم "الدوندرمة" كما يطلق عليه بالتركية، وشرائه بنفسه لأردوغان.
من المعلوم أن العلاقات الروسية التركية تأرجحت بين التوتر والهدوء والتفاهم عقب الخلافات بن البلدين فيما يخص القضية السورية ولكنها عادت متسمة بالتفاهم، البعيد عن الانسجام، عقب احتدام الخلاف بين "أنقرة" و"واشنطن" بعد أن أعادت "تركيا" ترتيب أوراقها مع "روسيا" على مبدأ (سياسة الأمر الواقع) فعمدت "روسيا" إلى استغلال المأزق التركي بتخبطه على ساحة السياسة العالمية بغية سحب الأوراق من "أنقرة" وتبديد الأحلام السلطانية لأردوغان بدءاً من اتفاقات مناطق خفض التصعيد والتي أخذتها موسكو لصالح القوات الحكومية واحدة تلو الأخرى ضاربة عرض الحائط بالتفاهمات التركية الروسية وفي كل مرة تستشيط "أنقرة" تصريحات جوفاء يتلوها زيارة لموسكو أو لقاء على مستوى وزراء خارجية البلدين ثم تعود بعدها الجعجعة التركية للهدوء بمصافحات وتفاهمات جديدة، وليس إخراج تركيا وفصائل المعارضة المدعومة تركيّاً من حلب عام 2016 إلا واحدة من هذه الخطوات .
وها هي اليوم تدور دائرة الأحداث في "إدلب" التي كانت حصيلة التفاهمات التركية الروسية بأن تكون منطقة مستقرة لا تصعيد فيها وبمراقبة مشتركة تتقاسمها "موسكو" و"أنقرة" فظلت هادئة حتى قبل خمسة أشهر من الآن، وتحديداً حتى أبريل/نيسان من هذا العام إذ بدأت القوات النظامية وبإيعاز ومشاركة من روسيا بالتقدم فيها حتى وصلت اليوم إلى عمق نقاط المراقبة التركية، تقدم تليه تصريحات نارية من الجانب التركي جعلت من سمعها يظن أن الأرض ستتزلزل، حتى طالعتنا الزيارة التي قام بها أردوغان لموسكو بالورود البيضاء والمصافحات الحارة والضحكات العريضة وتناول "الآيس كريم" عقب تصريح الرئيس الروسي "بوتين" بأن المنطقة الآمنة المزمعة في الشمال السوري بالاتفاق بين "أنقرة" و"واشنطن" ضرورة من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية من جهة ولتبديد القلق التركي المشروع على أمن أنقرة القومي من جهة ثانية، فيبدو أن هذه التصريحات بمثابة مثلجات تطفئ الحنق التركي لبعض الوقت ريثما تتم إعادة توزيع الأوراق وتثبيت الأقدام، كما جرت العادة مع السياسة الروسية على الميدان السوري، يصار بعدها إلى تقدّم جديد والبحث عن "آيس كريم" جديدة تلهي السلطان عن تصريحاته النارية.
قصارى القول إنك إذا ما زرت دمشق وذرعت شوارعها وحاراتها القديمة صيفاً فإنك ستجد نموذجاً لافتاً لباعة "الآيس كريم" والعصائر الباردة من التمر الهندي والعرقسوس تتردد صيحات بائعيها على حجارة دمشق العريقة بنغم صاخب ورتيب "طيبة وباردة" لتمد يدك في جيبك بلا تفكير مدفوعاً بحلاوة النداء وحرارة الشمس اللاهبة طالباً "الآيس كريم" الذي يشعرك بلذة وبرودة مؤقتة تتلاشى فور انتهائك من تناول ما اشتريت، ولكن ما دفع "بوتين" إلى إطعام "أردوغان" "الآيس كريم" والتصريحات الطيبة الباردة ليس لهيب شمس موسكو وهي المدينة الباردة وإنما لهيب شمس الواقع ولكن المأسوف عليه أنها ستكون في أفواه الجميع طيبة باردة رخيصة الثمن إلا على السوريين الذين يدفعون ثمنها دماءً ووطناً .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة