الغربيون عموماً، والأوروبيون بالأخص، مازالوا مذهولين من السياسة السعودية الجديدة في ظل القيادة الشابة.
نعيش في الجولة التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان آل سعود، ولي العهد السعودي، لكل من مصر وبريطانيا والولايات المتحدة، تفاصيل سيوثقها التاريخ، كونها تأتي ضمن رؤية استراتيجية سعودية جديدة تتمثل في استعادة دور الرياض الإقليمي من خلال إعادة ترتيب "اللاعبين السياسيين" في منطقة الشرق الأوسط، مستثمرة علاقاتها المتميزة مع دول تشترك معها في العمق الإقليمي وهمّ الأمن القومي العربي، متمثلة في دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر بصورة أساسية، وكذلك مع دول تشترك معها في المصالح السياسية، متمثلة بشكل أساسي في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
الغربيون عموماً، والأوروبيون بالأخص، مازالوا مذهولين من السياسة السعودية الجديدة في ظل القيادة الشابة، حتى إن البعض منهم يطرح تساؤلات وعلامات استفهام حول حقيقة ما يحصل في السعودية، رغم أن كل المؤشرات تقول بأن قيادتها الجديدة شرعت في إعادة صياغة استراتيجيتها الإقليمية من خلال التخلص من سياسة التحفظ التي كانت تتبعها، وأنها بادرت بالتحرك لإجراء إصلاحات داخلية تعمل من خلالها على تمكين المرأة والشباب، وخارجياً من خلال العمل الدبلوماسي والعسكري لصد التمدد الإيراني في اليمن والآن في العراق.
إذا كان مفاجئاً للغرب ذلك الطموح السعودي والرغبة في التأثير في الفضاء السياسي الإقليمي، فإن العرب يدركون تماماً أن المملكة لديها العوامل الموضوعية لما تقوم به الآن، فلديها على سبيل المثال جيش قوي، ولديها ثقل سياسي تاريخي، والأهم من ذلك لديها نخبة سياسية ذات رؤية واضحة
ببساطة شديدة، ما يحدث له علاقة برغبة القيادة السعودية في ملء الفراغ السياسي العربي الذي حدث بفعل ما كان يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي استغلته كل من تركيا وإيران في التمدد في الشؤون العربية، وظهرت نتائج تلك الرغبة من خلال التضييق على إيران إقليمياً ودولياً، وبالتالي تراجعها إلى الداخل، بل إن الحراك الشعبي في الداخل الإيراني له علاقة بما يحدث في السعودية من تغييرات داخلية، فهي بمثابة "الحرب الناعمة" ضد إيران، وبالتالي فإن ما يحدث ليس أمراً طارئاً أو يدعو إلى طرح التساؤلات كما يفعل الأوروبيون، ولكنه تعبير واضح عن سياسة سعودية للعب دور فعال في المنطقة يضع حداً "لخصوم العرب" الأساسيين.
آمال العرب، بل القوى الأخرى في العالم، معقودة على أن السعودية هي القوة المسؤولة عن المنطقة، وستكون عامل استقرار وتوزان في مواجهة الدول الداعية للتخريب في المنطقة، معتمدة في ذلك على البرامج التنموية للمملكة، وتاريخها في سياستها الخارجية، بعيداً عن التأثيرات الأيديولوجية التي تلعب بورقتها دول مثل تركيا، باستخدامها الإسلام السني لتحقيق أهدافها، أو إيران التي تلعب بالورقة الطائفية، لذا هناك التفاف جماهيري سعودي وعربي وحتى دولي حول ما يقوم به الأمير محمد بن سلمان، خاصة أن حجم الخسائر الاقتصادية والسياسية التي ستتكبدها إيران وتركيا كبيرة، وربما ظهرت أولى تلك النتائج من خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأسبوع الماضي إلى طهران، موضحاً قلق العالم من الصواريخ الباليستية الإيرانية وتمدد إيران في المنطقة.
ستكون هذه الجولة الأساس لعلاقات سعودية إقليمية ودولية جديدة، غير مأمونة العواقب لإيران وتركيا، وقد تكون مضرة لهما فيما لو مسَّتا الأمن القومي العربي باعتبار ذلك يمس المملكة العربية السعودية أيضاً، وقد بدأت المملكة العربية السعودية سياسة طرد إيران من العراق من خلال الاستثمارات في جنوب العراق، وفي لبنان من خلال توحيد الصف اللبناني لخدمة جميع اللبنانيين، وهذه القفزة السعودية لن يهملها الغرب، بل سيتمسك بها لأنها ستعود عليه بفوائد ومصالح تغنيه عن ربط مستقبل علاقاته بدول مرتبطة بدعم التطرف والإرهاب وخلق الفوضى، التي حدثت في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
إلى ما قبل عام ونصف العام تقريباً، لم يرقَ إلى ذهن المراقبين أن تتغير السياسية السعودية بهذه الدرجة من النشاط والحزم والرغبة في استعادة دور الرياض التقليدي في المنطقة؛ الذي كانت تتكامل فيه مع كل من مصر والعراق وسوريا، مع أن رسائل هذه النقلة كانت واضحة من خلال تشكيل التحالف العربي من أجل استعادة الشرعية في اليمن، ولكن الذي لم تستوعبه طهران وأنقرة هو تلك القدرة السعودية على خلق أحلاف بإمكانها إيذاؤهما نتيجة للمصداقية التي تتمتع بها الدول الخليجية عموماً، فالسعودية اليوم مرشحة لتحتل مكانة جديدة في النظام الدولي وليس الإقليمي فقط، فالدول صانعة القرار السياسي العالمي باتت تعترف بأن الرياض صانعة القرار العربي والإقليمي.
المتابع للشأن السعودي يدرك أن هناك سياقاً مفهوماً وخطوطاً واحدة أساسها إرادة مستقلة لقيادة امتلكت رؤية واضحة في حماية الأمن القومي العربي بعيداً عن سياسة الدول الكبرى، التي تتغير وفق مصالحها كما حدث في الموقف من توقيع الاتفاقية النووية مع إيران، وكذلك في ابتعاد الآخرين عن ملفات المنطقة، فاهتدت إلى أهمية التركيز على العمق الجغرافي والتاريخي لها، فكانت مصر أول محطة في الجولة، واختارت دولة الإمارات شريكاً لها في مواقفها من حماية الأمن القومي العربي.
إذا كان مفاجئاً للغرب ذلك الطموح السعودي والرغبة في التأثير في الفضاء السياسي الإقليمي، فإن العرب يدركون تماماً أن المملكة لديها العوامل الموضوعية لما تقوم به الآن، فلديها على سبيل المثال جيش قوي، ولديها ثقل سياسي تاريخي، والأهم من ذلك لديها نخبة سياسية ذات رؤية واضحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة