انقلاب النيجر واختيارات واشنطن.. مسار دبلوماسي على مطب الاعتراف
يُجمع كثيرون على أن الانقلابات في النيجر هي أمر روتيني نسبيا، لكن هذه المرة مختلفة، فما هو على المحك الآن أكثر مما كان عليه سابقا
هذه خلاصة تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، التي رأت أن الأزمة الحالية في النيجر، تستمر في اكتساب أبعاد جديدة، في مقدمتها اختيارات واصطفافات الغرب لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية.
فعلى مدى العقود الستة الماضية، شهدت النيجر خمسة انقلابات، لكن ما حدث في 26 يوليو/تموز 2023، مختلف، ويأتي بعد عامين فقط من أول انتقال ديمقراطي للسلطة في بلد يُنظر إليه الآن على نطاق واسع على أنه آخر حصن للغرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي زيارة للنيجر في مارس/آذار الماضي، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن البلاد "نموذج للديمقراطية".
لكن يبدو أن الغرب خدع نفسه حين تصور أن النيجر كانت تسير على مسار أكثر استقرارا مما كانت عليه في الحقيقة، بحسب المجلة.
فمباشرة بعد الاستيلاء على السلطة، ألغى المجلس العسكري النيجري اتفاقيات الدفاع الفرنسية، وقيل إنه اجتمع مع قادة شركة "فاغنر" شبه العسكرية الروسية، لمناقشة أشكال التعاون الممكنة.
وبنفس السرعة، تضاعفت الهجمات التي تشنها الجماعات الإرهابية المتحالفة مع تنظيمي القاعدة وداعش، على حدود النيجر.
في هذه الأثناء، أطلق اثنان من قادة المتمردين السابقين المتحالفين مع الرئيس النيجري المحتجز لدى المجلس العسكري، محمد بازوم، حركات مسلحة جديدة لإعادته إلى السلطة.
وفي الـ 26 من يوليو/تموز الماضي، تم احتجاز بازوم في منزله من قبل قوات الأمن الرئاسية التابعة له. وفي غضون 48 ساعة، حصل رئيس حرسه، الجنرال عبد الرحمن تشياني، على دعم من الجيش وعين نفسه رئيسا للحكومة الانتقالية.
وحتى أواخر أغسطس/آب الجاري، يبدو أن بازوم لا يزال عالقا في قصره الرئاسي، بينما تترقب العيون أي تدخل عسكري محتمل من مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس).
وقد تمسك تشياني بموقفه، محذرا من أن أي محاولة للتدخل العسكري، لن تكون بمثابة "نزهة في الحديقة".
ذنب الغرب أم بازوم؟
وتقول "فورين أفيرز" إن ما حصل في النيجر لا يمكن اعتباره أمرا مفاجئا"، مشيرة إلى أن "التوترات الداخلية كانت هي الدافع المباشر للانقلاب".
كما أنها ذهبت إلى أن الأزمة الحاصلة "هي تتويج لعقد من سياسات تحقيق الاستقرار غير المدروسة التي قادتها الخارج في منطقة الساحل".
ففي عام 2013، عندما بدا أن الجماعات الإرهابية تستعد للاستيلاء على باماكو، أرسلت فرنسا عدة آلاف من القوات إلى مالي.
وفي حين قضت فرنسا على بعض كبار قادة تلك الجماعات، فإن ملاحقتها لهم تسببت في انتشار الإرهابيين عبر وسط مالي وإلى المنطقة الحدودية إلى جانب النيجر وبوركينا فاسو. بحسب المجلة.
وبتجاهل دعوات منطقة الساحل إلى الحوار السياسي، انتهى الأمر بفرنسا إلى لعب دور كبير في الأمن والسياسة في العديد من دول المنطقة.
في أواخر عام 2010، وفي مواجهة حركات تمرد ريفية واسعة النطاق، أنشأت فرنسا شراكات لمكافحة الإرهاب مع حركات متحالفة مع الحكومة المالية.
غير أنه ومع تصاعد التوترات الطائفية، سقط العديد من القتلى في صفوف المدنيين، واضطرت المجتمعات التي كانت تعيش مؤخرا في سلام نسبي إلى تسليح نفسها من أجل الدفاع عن النفس.
وأدى انتشار العنف بلا هوادة إلى تحول العديد من سكان الساحل العاديين ضد الأنظمة التي دخلت في شراكة مع فرنسا، وأصبح المدنيون ينظرون بشكل متزايد إلى قادتهم على أنهم وكلاء لباريس.
كما أدى العنف المتصاعد والارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لفرنسا إلى انقلابات في مالي، عام 2020، وبوركينا فاسو في 2022، وفق المجلة الأمريكية.
وفي أغسطس/آب 2022، مع تدهور علاقاتها مع باماكو، سحبت فرنسا قواتها بالكامل من مالي.
لكن باريس لم ترسل جنودها إلى وطنهم، إذ قامت بإرسال الكثير منهم إلى النيجر. في خطوة تسلط الضوء على سبب حرص العديد من المراقبين بالخارج على الترويج للانتخابات التي أجريت على جولتين في النيجر في أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021 باعتبارها نوعا من المعجزة التي خلقت، بين عشية وضحاها، "آخر معقل للديمقراطية" في منطقة الساحل.
ولفتت فورين أفيرز إلى أنه "على مدى العقد الماضي، أدت الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل - بقيادة فرنسا وبدعم من الولايات المتحدة - إلى إضعاف المؤسسات المدنية في المنطقة بشكل مطرد وفشلت في توفير الأمن".
وأضافت "لقد أوصلوا الحكام العسكريين إلى السلطة في أربع من دول الساحل الخمس؛ وبعد أن سحب الغرب دعمه لتلك الأنظمة الجديدة، لجأ المجلس العسكري في مالي وبوركينا فاسو إلى روسيا طلبا للمساعدة الأمنية".
أما تقدير الغرب لبازوم فكان منفصلاً عن الواقع على الأرض في النيجر، حيث واجه استياءً متزايدا منذ توليه منصبه في عام 2021.
في المقابل، يبدو أيضا أن تودد بازوم للغرب جعله بعيدا بشكل كبير عن شعبه، حيث أدى مقتل ثلاثة متظاهرين في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على يد قافلة فرنسية دخلت النيجر إلى إعادة فتح جروح عمرها عقود.
وطوال عام 2022، نظم تحالف المجتمع المدني في النيجر، مظاهرات في العاصمة نيامي، للمطالبة برحيل القوات الفرنسية.
وفي يناير/كانون الثاني من نفس العام، اعتقلت السلطات النيجرية، زعيم الجماعة، عبد الله سيدو، بتهمة تقويض النظام العام، في حادثة اعتبرتها المجلة الأمريكية أنها زادت من الاستياء الشعبي تجاه السلطة الحاكمة.
غير أن ما اُعتبرت أخطاء لبازوم، لا يمكن أن تحجب نجاحاته. فالرئيس المحتجز صمم سياسة أمنية حكيمة فريدة من نوعها أطلق عليها اسم نهج "اليد المفتوحة"، وتسهيل الحوار السياسي بين المتمردين والحكومة، والتوسط في وقف إطلاق النار، وتقديم العفو عن المنشقين.
وفي الوقت نفسه، عزز عمليات أمن الحدود من قبل جيشه، وحصل على الدعم الجوي الفرنسي والأمريكي. وقد أتى هذا النهج بثماره، حيث شهدت المنطقة الحدودية للنيجر التي تبلغ مساحتها 200 ميل مربع تقريبا مع مالي انخفاضا بنسبة 80 بالمائة في أعمال العنف ضد المدنيين بين عامي 2021 و2022.
هل تتراجع واشنطن؟
واليوم، يظهر الخلاف حول كيفية حل الأزمة في النيجر، حيث تسعى فرنسا ودول غرب أفريقيا إلى استخدام القوة لإعادة بازوم، وسط دعوات دول إقليمية للحل الدبلوماسي.
وتوقع العديد من المراقبين أن تحذو الولايات المتحدة حذو فرنسا، كما فعلت عادة في المنطقة.
ولكن حتى الآن، شجعت واشنطن بحكمة الوساطة، مدركة أن التدخل العسكري في النيجر من المرجح أن يؤدي إلى صراع جديد بين الفصائل الإقليمية المدعومة من القوى الأجنبية المتنافسة.
وجاء موقف واشنطن مفاجئا، حيث كانت الولايات المتحدة بشكل عام راضية باتباع خطى فرنسا في منطقة الساحل مقابل دعم المساعي الأمريكية في الشرق الأوسط.
غير أن الولايات المتحدة لم تصل إلى حد وصف الوضع بأنه "انقلاب"، وهو إعلان يتطلب منها، بموجب القانون الأمريكي، قطع المساعدات العسكرية عن النيجر.
وبعد ثلاثة أسابيع كاملة من استيلاء المجلس العسكري على السلطة، كان البنتاغون لا يزال يصف الأزمة بأنها "محاولة انقلاب".
وقد صرح بلينكن بوضوح أن أزمة النيجر "ليس لها حل عسكري مقبول"، ودعا هو وغيره من القادة الأمريكيين مرارا وتكرارا إلى حل سلمي والإفراج عن الرئيس، وليس إعادته إلى منصبه.
ولهذا ترى المجلة الأمريكية أن الولايات المتحدة تحتاج إلى نيجر مستقر وصديق، لافتة إلى أنها طورت مصالح أمنية كبيرة هناك.
مسار أمريكي صحيح.. ولكن
وخلص التحليل الذي طالعته "العين الإخبارية" إلى أن المسار الحالي الذي تسلكه واشنطن صحيح، ويجب على صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة مقاومة الدعوات الداعمة للتدخل العسكري في النيجر، منعا لاندلاع حرب بالوكالة بين روسيا والغرب في منطقة الساحل الأفريقي.
بيْد أن العقبة الأكبر أمام مواصلة هذا المسار هي أن أي دفعة جدية لحل الأزمة سلميا من المرجح أن تتطلب اعتراف الولايات المتحدة بالمجلس العسكري.
وعلى المدى القريب، يتعارض الاعتراف مع السياسة الخارجية التي تعتمد على القيم للرئيس جو بايدن، وفي نفس الوقت سيكون من المفيد أيضا بالنسبة للنيجريين أن يروا قوة غربية تعترف أخيرا برغبتهم العميقة في رؤية نهج قائم على الدبلوماسية.
وتستخدم واشنطن قاعدة طائرات بدون طيار تابعة لوكالة المخابرات المركزية في ديركو، وفي الآونة الأخيرة، استثمرت أكثر من 100 مليون دولار في قاعدة جوية في العاصمة الإقليمية الشمالية، أغاديز، لتوسيع قدرات الاستخبارات الأمريكية في المنطقة.
وتحتفظ الولايات المتحدة بحوالي 1000 من جنودها في قواعد هناك وفي العاصمة نيامي.