"الرمانة" و"العصا".. مصالح واشنطن وباريس على ميزان النيجر
تزداد حسابات الولايات المتحدة وفرنسا تباينا يوما بعد يوم في النيجر، فبين موقف باريس الداعم بقوة لتدخل عسكري، تفضل واشنطن التريث والحوار
ولم يعد خافيا، أن فرنسا التي تقف من وراء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، ليست على توافق تام مع أمريكا، التي تفتح قنوات الحوار مع المجلس العسكري الحاكم بالنيجر، خاصة مع قدوم سفيرة واشنطن إلى نيامي في المناخ الدولي الداعي لمقاطعة السلطات الجديدة.
وما بين تزايد وتلويح "إيكواس"، ومن خلفها فرنسا على وجه الخصوص، وبين تمسك المجلس العسكري بموقفه بعدم التنازل عن موقفه بعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم، وعودة النظام الدستوري بقيادته، يشتد الاصطفاف الدولي والإقليمي.
في خضم ذلك يظهر في الصورة بوضوح تعارض الموقفين الأمريكي والفرنسي من الصراع في النيجر؛ فكل منهما يستخدم نبرة مختلفة عن الأخرى لوصف الأوضاع في المنطقة، منذ وقع الانقلاب في 26 يوليو/ تموز الماضي.
فرنسا غير مرغوبة
على الصعيد الفرنسي، الموقف واضح وصريح منذ بداية الأزمة، بعدم الاعتراف بالانقلاب، والإصرار على عودة المسار الدستوري المشروط بعودة بازوم، ويصاحب ذلك رفض المجلس العسكري، ومن ورائه مزاج شعبي ضد أي دور لباريس، وسط تزايد المطالبات بالتوجه إلى الكتلة الشرقية وإلى روسيا تحديدا.
وتقدم موسكو نفسها كشريك وند في العلاقات مع الدول الأفريقية، ما ساعد على وجود تيار عريض من الشباب الأفارقة ينادون بالتخلص من الهيمنة الفرنسية لصالح العلاقات مع الدولة الشرقية، ويتبنى هؤلاء الشباب خطابات شديدة اللهجة ضد باريس، وينشرون شعارات مناهضة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبيل: "أفريقيا بدون فرنسا أفضل" و"أفريقيا للأفارقة".
من هنا يرى محللون أن الولايات المتحدة تؤيد فك الارتباط مع فرنسا، كونها لم تعد مرغوبة في أفريقيا، على الأقل في حالة النيجر، وبعض دول الساحل الأخرى، التي شهدت تغيير النظام بفعل انقلابات متتالية.
ذكاء براغماتي
رغم ذلك يلتقي الموقف الفرنسي مع الموقف الأمريكي في رفض أي تدخل شرقي من روسيا والصين في المنطقة، لكن تلعب الولايات المتحدة بذكاء براغماتي لصالح مصالحها حتى ولو كان على حساب حليفتها باريس.
وتجلى هذا التكتيك بوضوح في أزمة النيجر، فرغم رفض واشنطن لما حدث بنيامي، إلا أن التحرك العملي والتصريحات الأمريكية تؤكد أن هناك تباينا واضحا في الموقفين الأمريكي والفرنسي، ففي وقت تتصاعد فيه اللهجة الفرنسية ضد الانقلاب، نجد أن الأمريكيين أكثر هدوءا دون تهديد أو تلويح، لدرجة عدم تسمية ما حدث بـ "الانقلاب" حتى اللحظة، علاوة على تفضيل عدم التدخل العسكري، وضرورة العودة للحوار السياسي والدبلوماسي.
وتنطلق واشنطن في هذا الموقف من الحفاظ على مصالحها في المقام الأول، التي تتمثل ابتداء من امتلاكها لقاعدتين عسكريتين للطائرات من دون طيار في النيجر، واحدة منها تقع في منطقة أغاديز شمال البلاد، تقوم من خلالها بعمليات استطلاع شاملة للمنطقة، وتعتبر مركزاً مهماً للمعلومات، إضافة إلى وجود 1100 جندي أمريكي هناك.
صحيح أن ذلك لم يقض على الحركات الإرهابية في مثلث الموت ما بين النيجر وبوركينافاسو ومالي نهائيا، إلا أن هذا التواجد الأمريكي يحافظ ولو بنسبة بسيطة على مبرر تواجد هذه القوات والقواعد في المنطقة، علاوة على المصالح الاقتصادية وعلى رأسها اليورانيوم والذهب وغيرها من المواد الخام المهمة جدا.
ولا تريد الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال أن تغامر بموقع استراتيجي في النيجر، بالنسبة لها هو رمانة الميزان في الساحل الأفريقي، يحفظ لها وجودا عسكريا لمكافحة الإرهاب عن قرب، ويدرّ عليها مصالح اقتصادية، عبر الانتفاع من مناجم اليورانيوم، وهي بذلك تضرب عرض الحائط أي رغبة فرنسية مهما كانت قوة التحالف بين الدولتين الغربيتين.
"أمريكا أولا"
كأن واشنطن في النيجر ترفع شعار "أمريكا أولا"، إذ تحافظ على مصالحها الذاتية أولا قبل الحفاظ على مصالح الصديق الفرنسي، وفي هذا السياق تقرؤ الزيارة الأخيرة لوكيلة وزارة الخارجية فيكتوريا نولاند، ولقائها قادة المجلس العسكري، ومؤخراً وصول السفيرة الأمريكية إلى نيامي كاثلين فيتزغيبونس.
ويمثل هذا التواصل -بحسب محللين- اعترافا ضمنيا بالمجلس العسكري، في حين تمارس واشنطن ضغطاً على دول الجوار والمجتمع الدولي، من أجل عدم استخدام الحل العسكري، وقد نجحت في ذلك بشكل كبير، وهذا ما يشجع قادة الانقلاب على التشبث بموقفهم.، فأي تدخل عسكري بدون المباركة الأمريكية، وعدم وجود مظلة من الاتحاد الأفريقي الذي يرفض التدخل العسكري أيضا، ومجلس الأمن الذي لم يعقد أي جلسة طارئة حتى الآن لبحث الأزمة، بالتأكيد سيكون ضعيفا.
في مقابل ذلك يرى مراقبون أن فرنسا خسرت هذه المعركة، لأنها فشلت سواء في حشد رأي عام دولي أو إقليمي ضد التدخل العسكري.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي تنطلق من مصالحها الجيو-ستراتيجية بالمنطقة، ترى أنها هي الأولى بإرث الصديق الفرنسي وامتلاك كل مصالحه التي خسرها وهو يكافح الإرهاب ويحرس مناجم اليورانيوم، وعدم ترك الفراغ الذي يتنافس عليه دول إقليمية وشرقية كثيرة.
لذلك ترى واشنطن أن فرصتها أكبر في الميراث الفرنسي أكثر من روسيا والصين، وأنه مهما كانت النزعة الأفريقية تجاه موسكو، فإن بمقدورها التغلب على هذا المنافس القوي، الذي ترى أنه منشغل ومنهمك في الحرب مع أوكرانيا.
من الواضح أن باريس ليس لديها خيار، سوى الحفاظ على نفوذها التاريخي بالمنطقة بعصا غليظة، بعدم خسارة النيجر بعد مالي وبوركينافاسو وقبلهما أفريقيا الوسطى، التي لم تستطع إخضاعها بعد انقلابات حولت ولاء هذه الدول إلى موسكو، ولم تتعظ فرنسا من سياستها الخاطئة في الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا، وتواصل نفس أسلوب الوصاية على أنظمة الحكم في هذه الدول تحت مظلة الحفاظ على المسار الدستوري.
ولو نجح الانقلاب في النيجر هذه المرة، يبدو جليا أنه ستصعب مواجهة حالة النزوع الشعبي ضد النفوذ الفرنسي، وستدحرج كرة النار لكل ما هو تابع فرنسي في دول الجوار التي لم يعد يتبقى منها سوى السنغال وغانا وكوديفوار وبنين من دول "إيكواس".
وإذا كان المتابعون يقولون إن لباريس ساقين هما الأقوى في المنطقة، أحدهما في النيجر والتي أوشكت على الانكسار، لم يعد يتبقى لها سوى تشاد التي لها نفوذ كبير جدا على نظام الحكم بها، ومن غير المستبعد أن تنتقل العدوى إلى العاصمة التشادية نجامينا، والتي لم يغب على شعوب المنطقة الاعتراف الفرنسي بتحول السلطة فيها بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي، لنجله محمد إدريس ديبي، بينما لم تعترف باريس بالانقلاب في النيجر لعدم الاطمئنان لقادة المجلس الجدد، لتصبح الشعارات التي ترفعها فرنسا بالحفاظ على الأنظمة الدستورية في الساحل الأفريقي في مهب الريح.
خلاصة التباين
الخلاصة أن هذا التباين الأمريكي الفرنسي في الأزمة في النيجر يمثل معطى مهما في فض هذا النزاع، فالتدخل العسكري الذي تتبناه فرنسا وتحفز عددا من دول "إيكواس" التي تدين بالولاء لها لشن هجوم العسكري، هو لخشية باريس وأنظمة هذه الدول من انتقال العدوى إلى بلدانهم.
وهذا التدخل سيؤدي إلى حالة من الفوضى في المنطقة بالكامل، وستشهد موجات نزوح جماعي من النيجر إلى دول الجوار، فضلاً عن زيادة في معدلات الفقر، مع وجود انقسامات في الإقليم بين رافض ومؤيد للعمليات العسكرية، ما بين تشاد والجزائر ومالي وبوركينا فاسو، في مقابل السنغال وغانا وكوديفوار وبنين والنيجر.
أضف إلى ذلك، وجود خلافات دولية بعد فشل فرنسا في النيجر، لتصبح هناك دول أوروبية أخرى تميل إلى الموقف الأمريكي المتمثل في اللجوء إلى العملية الدبلوماسية، ومن ثم فإن التباين الفرنسي الأمريكي في النيجر بالحسابات المنطقية والعملية سيكون لصالح واشنطن التي تستقرئ واقع ومآلات الأزمة بتأن وهدوء، على حساب باريس التي أجبرتها الخسارة على تهور غير محسوب سيفقد فيه الكثير في المنطقة وفي الداخل الفرنسي نفسه.
aXA6IDMuMTM4LjEyMS43OSA= جزيرة ام اند امز