معظم المال الذي يدخل إيران من نشاطها التجاري، إنما يذهب لصالح المليشيات. لهذا السبب ظلت البنى التحتية في إيران تنهار، وتتراجع الخدمات العامة،
التطبيع مع إسرائيل، أم التطبيع مع إيران؟ سؤال يتطلب جرأة. ولو أن المرء استدرك مقدارا من العقل ليقارن، فإنه سيعثر على حقيقة أمرّ من الحنظل.
التطبيع كلمة تحتاج هي نفسها الى تطبيع، لكي توضع في سياقها الصحيح. إنها علاقة "طبيعية" بين دولة وأخرى، لا تريدان أن تخوضا في نزاع دام. لا تريدان حربا. كما لا تريدان أن يطغى التوتر بينهما، وأن يلتزما حدود المعايير الطبيعية في العلاقة بين الدول، ومنها أن يمتنعا عن التدخل في الشؤون الداخلية، وأن يفتحا آفاقا للتعاون التجاري والاقتصادي وضمان المنفعة المتبادلة لشعبيهما، وأن يسعيا الى تسوية الخلافات والنزاعات بروح الرغبة في التوصل الى حلول ترضي الطرفين.
وبرغم أن النزاعات العربية والفلسطينية مع إسرائيل ما تزال قائمة، فإنها في النهاية نزاعات مع دولة. وسبق لجانب من هذه النزاعات أن انتهى الى حلول معقولة بالنسبة لمصر والأردن، كما قطع الفلسطينيون أكثر من نصف الطريق للوصول الى حلول مماثلة.
إسرائيل انسحبت من كل قطاع غزة وفككت كل المستوطنات فيها، كما انسحبت من قطاع واسع من الضفة الغربية، بما يشمل كل مدنها الرئيسية، وسلمتها للسلطة الفلسطينية، وتعهدت للإمارات بوقف المزيد من أعمال الضم التي كان من شأنها أن تؤدي سقوط حل الدولتين.
هذا نجاح أمكن تحقيقه بالتفاوض مع دولة، تتصرف مع أعدائها، كما مع مصالحها، كدولة. بالزائد أو بالناقص، فإنها يمكن أن تأخذ وتعطي وفقا لأسس ومعايير "طبيعية" تماثل كل الأسس والمعايير التي تنظم العلاقات بين دول العالم الأخرى.
لو أرادت أن تشتري بضاعة فإنها تدفع ثمنها، وفقا لأسعار السوق. ولو أرادت أن تبيع بضاعة فإنها تتلقى الثمن نفسه. ويمكن للتفاوض على المصالح أن يقف على ميزان منظور وخاضع للمراجعة والتدقيق.
كل هذا ممكن لأن هناك أسس توجب على الدولة أن تحترمها، وذلك احتراما لتعاقداتها كدولة.
الجمهورية الخمينية، ليست دولة من الأساس. إنها كيان فوضوي ومليشياوي. وهي كيان توسعي يتفاخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية، ليقدم نفسه كقوة غزو تهين كل معاني العلاقة بين دولة ودولة. ولو نظرت الى جريمة ضرب منشآت أرامكو، على سبيل المثال، من دون سابق مبرر، فستعرف أنها كيان عدواني جبان وخسيس، لا يجرؤ على الكشف عن وجهه، لأن التلثم جزء من طبيعته المنافقة. وهي كيان يحارب عن طريق طابور خامس، لا عن طريق المواجهة بين جيش وجيش.
إقامة علاقة مع إيران تعني إقامة علاقة مع الحرس الثوري الإيراني. وهذا منظمة إرهابية بالدليل المشهود. وهو فيلق تدخلات وعمليات إرهابية في الخارج تهين القيم والأعراف والمواثيق الدولية.
حتى العلاقات التجارية، هي علاقات تصب في مصلحة نظام المليشيات، لا في مصلحة الشعب الإيراني. الحرس الثوري والجماعات المسلحة الأخرى في إيران تستولي على أكثر من 80% من مجمل اقتصاد البلاد. ولئن كانت هناك مؤسسات دولة، ووزارات، فإنها مجرد هياكل وهمية خاضعة لسيطرة المليشيات. وإذا وقعت اتفاقا من أي نوع مع رئيس الدولة أو أحد وزرائه، فإنه يتعين أن يتوافق مع تصور تلك المليشيات للمصلحة العامة، ويمكن أن يتم رفضه ونقضه إذا بدا أنه لا يصب الماء في طاحونتها الخاصة. حتى الاتفاقات ذات الطبيعة الثقافية، فإنها لا تسير إلا في الطريق المشبوه لتغذية الشقاق الطائفي، وبناء مليشيات وإقامة خلايا نائمة.
معظم المال الذي يدخل إيران من نشاطها التجاري، إنما يذهب لصالح المليشيات. لهذا السبب ظلت البنى التحتية في إيران تنهار، وتتراجع الخدمات العامة، لأن الأموال لم توظف لحساب الصالح العام.
ماذا جنى العراق من تطبيع علاقاته مع إيران؟
تكشف الحقائق أن الفساد في العراق، أدى الى نهب أكثر من 800 مليار دولار، وأن جانبا كبيرا من هذا المبلغ تسرب الى إيران، ولكن من دون يشعر الإيرانيون أن بلادهم، حتى وهي قوة احتلال غير مشروع، استفادت منه.
القاعدة القائلة إن المال الحرام يتبدد بالحرام، تتجلى بأوضح صورها في العلاقة بين هذين البلدين. ذلك أن الفساد ليس من طبيعته أن يكون مفيدا لأكثر ممن يرتعون به. الفساد لا يقيم مصانع، ولا يُصلح طرقا، ولا يبني مستشفيات. وحتى عندما يتم نقل عائداته، فإنها تذهب لتغذية الفساد على الضفة الأخرى.
ذلك المبلغ الكبير، كان يمكن أن يعادل ميزانية بناء ضخمة، للعراق وإيران معا. إلا انه ضاع بين أيدي لصوص تركوا شعبهم على الجانبين يعاني الفقر والحرمان والبطالة والمرض.
كل ذلك حدث لأن الدولة كانت هي الغائب الأكبر. بل هي الضحية الأولى، في ظل نظام خلّف وراءه من الضحايا ما لا حصر له.
التطبيع مع المليشياوي الإيراني ساق سوريا الى دمار شامل. وفعل الشيء نفسه في اليمن ولبنان.
التطبيع مع إيران، يعني القبول بمبدأ "تصدير الثورة" أيضا، بكل ما ينطوي عليه من شقاق طائفي وحروب أهلية.
إسرائيل، في المقابل، بالكاد تريد أن تنجو بنفسها، وليس لديها مشروعا ثوريا لتصدره، ولا أحزابا تتبع وليا فقيه، ولا مليشيات مسلحة تتاجر بدماء الأبرياء، فتهدم مدنا، وتشرد أهلها، وتغتصب نساءها، وتعتقل رجالها لتعذبهم وتشنّع بهم باسم الدين.
إنها دولة، تحاربها فتحاربك. تتفاوض معها تفاوضك. تسالمها تسالمك، وتنتهي القصة. بينما إيران تحاربك وتسعى الى تدميرك بالتطبيع أكثر مما تفعل بالحرب.
هذا هو الواقع المُر الذي يعرفه كل الذين مدت إيران تطبيعها ونفوذها ومليشياتها إليهم.
تقول الحكمة: "عدو عاقل، خير من صديق جاهل". فما بالك أن إيران عدو جاهل، وما من فرصة أتيحت له، إلا وأثبت فيها أنه لن يعقل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة