الروائي سعيد خطيبي لـ"العين الإخبارية": نخاف ماضينا في الجزائر ولم نتصالح معه
الروائي والمترجم الجزائري سعيد خطيبي في حوار مع "العين الإخبارية" قال إن التاريخ يدعم مخيلة الروائي، ويمنحه فضاء لا حدود له.
أكد الروائي والمترجم الجزائري سعيد خطيبي أن المثقّفين الجزائريين كانوا سبّاقين في دعم الحراك الشّعبي، والمشاركة في كتابة أرضية له، إلى جانب مساندة حركة التغيير، التي أطاحت بالرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
وقال خطيبي في حواره مع "العين الإخبارية": "يستفيد الكتّاب من هذا التّاريخ المعاصر المتفجّر، وهو مصل يغذي نصوصهم".
وخطيبي مولود ببوسعادة في ولاية المسيلة بالجزائر، أكمل دراسته العليا في السوسيولوجيا في جامعة السوربون عام 2011، ويقيم حاليا في سلوفينيا، له العديد من المؤلفات منها "كتاب الخطايا" رواية، "أربعون عاما في انتظار إيزابيل"(رواية)، التي فازت بجائزة كتارا للراية وكتاب "بعيداً عن نجمة" وهو (ترجمات شعرية لكاتب ياسين)، و"مدار الغياب" ترجمة لقصص جزائرية باللغة الفرنسية، إضافة إلى كتاب في أدب الرحلة تحت عنوان "جنائن الشرق الملتهبة"، وهي رحلات في دول البلقان.
كيف تقيّم المشهد الأدبي في الجزائر حاليا؟
نعيش في فضاء أدبي متحرّك. فضاء يتطوّر، بهدوء، وفي صراع وعراك مع ذاته، ومع ما يُحيط به. عرفت الجزائر في الثّلاثين سنة الماضية أحداثاً كبرى؛ سقوط الاشتراكية، تفتت نظام الحزب الواحد، عشرية من الحرب الأهلية، ثورتين، وانتفاضات داخلية، نادراً ما كان الإعلام يتحدّث عنها –بسبب الرّقابة وسطوة النّظام السّابق– صارت كلّ مدينة في الجزائر تمتلك تاريخا لها، تتحوّل وتتعدّد في آن، وبدأنا نخرج تدريجيا من هيمنة المركز إلى "مركزيّة الهامش". هذه التّقلبات تنعكس –بالضّرورة– على الكتابة الأدبية، والكتّاب يستفيدون من هذا التّاريخ المعاصر المتفجّر، هو مصل يغذي نصوصهم.
ما الذي أعطاه التّرحال لتجربتك؟ وما الذي سرقه منها؟
أسافر كي أعود إلى أمكنتي الأولى. كلّما ابتعدت زاد قربي من الجزائر. جعلت من التّرحال قبل سنوات، بيتاً لي. وتعلّمت منه، لا سيما "الحرية". الحريّة هي حريّات، كتلة واحدة لا تتجزّأ ولا تقبل الانتقائية. نولد ونكبر في الجزائر داخل بالون من الممنوعات، من الموروثات التي يمنع عنا مناقشتها، ننشأ في فضاء يغلّب الحرام على الحلال، يفصل بيننا وبين النّقد أسلاك شائكة، وفي التّرحال والابتعاد عن "الأبوية" المرضية، نكتسب روحا متسامحة، نتخلّص من بقايا الماضي، نتحرّر من هزائمنا الداخلية، ونعيد أولاً اكتشاف ذواتنا، قبل اكتشاف الآخر. باعتقادي أن أهم رحلة نقوم بها هي رحلتنا إلى الحريّة، ولكل واحد منّا وجهة، المهم أن يعثر على الحريّة التي يتطلّع إليها.
روايتك الأخيرة "حطب سراييفو" تدور بين مكانين مختلفين ظاهريا، فكيف يتشابهان في العمق؟
بين الجزائر والبوسنة والهرسك قرابة ربع قرن من التّاريخ المشترك، عندما كانت البوسنة تتبع يوغوسلافيا. كانا بلدين قريبين من بعضهما البعض. طلبة جزائريون كانوا يستقرون في سراييفو، في السّتينيات والسّبعينيات من القرن الماضي، وعمّال بوسنيون كانوا يأتون إلى الجزائر، وحصل كثير من الزيجات المختلطة. لكن، بعد سقوط جدار برلين، وقعت القطيعة، وتباعد البلدان ودخل كلّ واحد منهما أزمات وتمزّقات داخليّة. في رواية "حطب سراييفو"، اهتممت بالمشتركات بين الجزائر والبوسنة والهرسك، حاولت ترميم الصّلات التي قطعت، بالعودة إلى التّاريخ الدّامي والإنساني الذي جمع بينهما، عدت في الرواية إلى نهاية الحرب العالمية الثّانية صعوداً إلى عشرية التّسعينيات، في استعادة للقرب التّاريخي بين بلدين صارا اليوم في علاقة فاترة.
هل اخترت أن تكتب الرواية أم تختار الفكرة قالبها؟
كما قلت سابقاً، أسافر كي أعود إلى أمكنتي الأولى، وحين وصلت إلى سراييفو، لأوّل مرّة، قبل سبع سنوات، شعرت أنني في الجزائر. لم أحسّ باغتراب. حين نسير في حاراتها، نشعر كما لو أننا نسير في قسنطينة أو القصبة أو وهران. هناك تشابه أيضاً في المطبخ وفي سلوكيات ساكنيها. وطبعاً تشابه في التّاريخ، قد لا يظهر من الوهلة الأولى، ويحتاج بحثاً وتدقيقاً، وذلك ما انشغلت به في سنوات ماضية، مستفيداً من أرشيف سراييفو ومن جهد في تعلم اللغة الصّربو–كرواتية. كتبت بمتعة عن أشياء مشتركة وأعرفها. وفي تلك الأثناء، ألحّ عليّ سؤال: سراييفو أيضاً عاشت حرباً شرسة، لماذا حافظت على أرشيفها، ولا تخجل من ماضيها، بينما الجزائر تسارع إلى إخفاء ماضيها، ونشقى للوصول إلى أرشيفها؟ يبدو لي أننا، في الجزائر، لم نتصالح مع ماضينا، نخاف منه، أو نخجل من أنفسنا ومن أفعالنا، ومعركتنا المقبلة هي تحرير التّاريخ، بمحاسنه وسقطاته، والخروج من عتمة التمجيد المجاني وتزييف الأحداث وابتكار الأبطال الخرافيين.
الرواية تتحدث عن جزائريين شاركوا في حرب البلقان، كيف حصلت على كل هذه التفصيلات عن تلك الفترة بالتحديد؟
في جزء يسير منها فقط تتحدّث عن مشاركة جزائريين في حرب البلقان، بينما في مجملها تنطلق من سؤال: كيف يمكن أن نعيش حربا وننجو من آثارها النّفسية؟ كانت تهمّني الكتابة عن أناس عاديين، عن مجهولين، أدوّن حياتهم وقصصهم ومعيشتهم وقت الحرب وبعدها، في الجزائر وفي البوسنة والهرسك. أردت أن أكتب عن يومياتهم في الحبّ والألم والخوف والفرح والقلق والأمل بينما الرّصاص يدوي فوق رؤوسهم، وتوجّب عليّ البحث في الجانبين، في البلدين. في سراييفو، لم يكن الأمر صعباً، بحكم أن الأرشيف متاح، وتعلّم اللغة سهّل عليّ المهمّة، بينما في الجزائر، لا أرشيف ولا وثائق متاحة. عشت الحرب الأهلية، في الجزائر، سنوات التسعينيات، صغيراً، كنت في تماس مباشر معها، كلّما حلّ الليل زاد خوفنا، ننام ولا نعلم أننا سوف نصحو أحياء، فقدنا خلالها بعضَ من نعرفهم وبعض المقرّبين، لكن لاحقاً لا أحد اهتم بتدوينها، على الأقلّ كي لا تتكرّر. في الجزائر كان الجهد مضاعفاً، وأنا أطوف بين أكثر من مدينة وقرية، أدوّن شهادات ناجين، وأقارب ضحايا، كما لو أنني أعيد كتابة تاريخ الحرب من جديد.
تقول في رواية "أربعون عاماً في انتظار إيزابيل" التي تتحدث عن الكاتبة والرّحالة إيزابيل إيبرهارت، وتسرد وقائع تاريخية: "اعتمدت على أرشيف واسع، استنزف مني أشهراً من البحث". لماذا تميل إلى الكتابات التّاريخية في أعمالك؟
يهمّني، قبل كلّ شيء أن أكتب رواية، تهمّني لذّة النصّ، قبل الخوص في تصنيفها أو نوعها. التّاريخ يسمح للكاتب أن يُرافق القارئ إلى أرض المتخيّل، أن يسرد وقائع انتهت كما لو أنها تدور الآن، أو يحكي شيئاً حصل ويتكرّر في الوقت الرّاهن. برأيي، العودة إلى التّاريخ تسمح لنا بفهم التّحولات التي تحصل أمام أعيننا، وفي بلد مثل الجزائر، يصير التّاريخ وفهمه ضرورة قبل أن ندّعي فهم راهننا. كما أن الرواية التاريخية فضاء معرفي. التاريخ يقوم على التّفصيلات، يلتفت إلى الزّوايا المعتمة، وذلك هو صلب العمل الرّوائي.
لماذا اخترت التّاريخ لتجربتك الروائية؟
الحدود الفاصلة بين الواقعي والمتّخيل، أو بين التّاريخي والرّاهني، هي حدود هشّة، أحياناً لا مرئية. ما يعنيني في الكتابة ليس استعادة التّاريخ، أو إعادة كتابته، فالتّاريخ علم قائم بحدّ ذاته، بل أكتب عالماً متخيّلا لا يتناقض في تفصيلاته مع التّاريخ الذي جرى. لذلك، أعتقد أن أي محاولة فهم للواقع تبدأ من فهم لما مضى، والفرق بين التّاريخ والرّواية التّاريخية أن الرّوائي يرى أشخاصا من الماضي، من لحم ودم وروح، ويتعامل معهم كما لو أنهم يتحرّكون أمامه، بينما المؤرخ يلغي صفاتهم الإنسانية ولا تهمّه سوى أفعالهم. الرواية تعيد الحياة إلى التّاريخ. تجعل من التاريخ الجماعي تاريخا شخصيا حميما. الرواية التاريخية مختبر شعري، يتداخل فيها أكثر من نوع كتابي واحد.
البحث في التّاريخ أو النبش في مقابر الأسرار أهو للكشف والمراجعة والتذكير أم للتميز خصوصا إذا كان من ينبش روائي؟
التّاريخ أو البحث في التّاريخ ليس سوى مادة، أو أدوات كتابية، وأحياناً ديكور في الأدب، والرّوائي يعتمد على قدرته في السّرد، وتجربته في الإبداع، لأن التّاريخ لا ينوب عنه، ولا يمكن أن يختفي خلفه كي يبرّر ضعفاً ما. على الروائي أن يبتدع عالمه، ويتحاور مع القارئ في نصّه، والتّاريخ هو أرضية نقف عليها كي نفهم ما يدور حولنا.
ما دور المثقف في الحراك الشعبي الذي تعيشه الجزائر الآن؟
كان المثقّفون سبّاقين في دعم الحراك الشّعبي، والمشاركة في كتابة أرضية له، ومساندة حركة التّغيير، ويمكن –هنا– العودة إلى بيان المثّقفين الجزائريين، الذين صدر مع بدء الحراك الشّعبي في 22 فبراير الماضي. نحن نعرف أن النّظام السّابق قضى 20 سنة في تشويه صورة المثّقف، وفي توريطه في معارك خاسرة، مع ذلك، لا نغفل عن العدد الكبير من المثقفين النّزهاء، الذين فضّلوا النأي بأنفسهم أو المنفى، بدل قبول المساومات وركوب قاطرة الفساد السّياسي.
تاريخياً، كان المثقفون الجزائريون، في الواجهة، وإلى جانب قضايا شعبهم، دفعوا الثّمن، منهم من مات في المنفى، مثل محمد ديب، محمد أركون، آسيا جبّار وغيرهم، ومنهم من عانى التّضييق، مثل مولود معمري أو كاتب ياسين، وفي عشرية التّسعينيات، سال دم العشرات منهم، نذكر مثلاً الطّاهر جاووت، يوسف سبتي، بختي بن عودة، عبدالقادر علولة، إلخ. مع ذلك، لا يزال مثقفون جزائريون يدافعون عن حريّتهم ويصطفون إلى جانب مواطنيهم في مشاغلهم اليوميّة.