الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 مات حتى ولو بقي هناك مَنْ يرجو له الإنعاش.
هذا الاتفاق مات بحكم الأمر الواقع، بسبب طول انتهاكات إيران له، وليس بسبب المماطلات بشأن هذا المطلب أو ذاك.
ولئن برزت محاولات لتسويق تسوية تقضي بإبقاء العقوبات على جزء من "الحرس الثوري" ورفعها عن جزء آخر، فقد بدت هذه المحاولات وكأنها تقول: إن هذه المنظمة تخدم هدفين مختلفين، الأول إرهابي، والثاني جمعية خيرية!
ولكن حتى ولو بقي في جثة الاتفاق نَفَسٌ، فإن محاولة إنقاذه الآن باتت خطأ سياسيا جسيمًا، من حيث التوقيت على الأقل.
فبينما يتظاهر الإيرانيون ضد فساد نظامهم، ويطالبون بإسقاطه، فليس من الحكمة أن يتقدم أحد بمبادرة لإنقاذه، لأنها سوف تعني مبادرة لإنقاذ ما لا يريد الإيرانيون إنقاذه.
والنتيجة غير مأمونة العواقب، لأن نظامًا استمرأ الخداع على امتداد كل السنوات منذ توقيع الاتفاق في عام 2015، أي بما فيها السنوات التي كان الاتفاق فيها حيا، فإنه سوف لن يفعل بعد الفوز برفع العقوبات غير أن يواصل الخداع.
والتوقيت غير صحيح لأن أزمة الثقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بلغت حدها الأقصى. فإيران بقيت تماطل في تقديم الإجابات عن الأسئلة التي قدمتها الوكالة بشأن العثور على آثار لليورانيوم المخصب في مواقع غير معلن عنها. وهو ما يؤكد أن إيران تُخفي أكثر مما تعلن، وأنها ظلت تمارس الخداع حتى عندما كانت محادثات فيينا تمضي قدما وتوشك على التوصل إلى اتفاق.
وتوجيه التهديدات للوكالة، هو نفسه سلوك غير مفهوم. فالوظيفة التي تؤديها هذه الوكالة هي مراقبة الالتزامات، ما يجعلها طرفا علميا محايدا، وغير معني بأي خلافات أو حتى مفاوضات.
وبوجود اتفاق أو عدم وجود اتفاق، فإن إيران كانت تراهن على روسيا في إنعاش تجارتها النفطية، رغم العقوبات. وحيث إن روسيا نفسها باتت تحت العقوبات، فإن هذا الرهان قد خاب، ما يجعل إحياء الاتفاق النووي تعويضا مجانيا عن خيبة ذلك الرهان، ويوفر ثغرة ضخمة بحجم إيران في جدار العقوبات ضد روسيا نفسها. حتى لكأن القادة الغربيين يهدمون بأنفسهم ما بنوه.
والتوقيت سيئ مرة أخرى لأنه يتزامن مع أعمال قرصنة عادت لتهدد أمن الملاحة في مياه الخليج العربي، والمرء لا بد أن يتساءل: إذا كانت إيران تمارس الاعتداءات على حرية الملاحة في هذه المنطقة الحيوية وهي تحت العقوبات، فماذا ستفعل عندما يتم رفع العقوبات عنها؟
وفي الواقع، فقد قدمت الولايات المتحدة الكثير من التنازلات لإيران منذ بدء محادثات فيينا، ما جعل الوقت يمضي دون طائل حقيقي. فهي قبلت "الإهانة" بأن تشارك في المفاوضات من حجرة منفصلة، بعد أن رفضت إيران التفاوض مباشرة مع الموفدين الأمريكيين. وهي رضخت لمطلب إيران بعدم التفاوض على أي موضوعات خارج الاتفاق النووي نفسه، بينما كانت دول المنطقة تطالب بإدراج برنامج إيران الصاروخي ونشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وكانت تلبية هذا المطلب ستكون مفيدة لإيران نفسها لأنها تكفل إزالة كل أوجه العقوبات عنها، ولكنها أرادت أن تبقى طليقة اليدين في ممارسة التهديدات. وكان التراجع الأمريكي عن هذا المطلب هو الذي شجع إيران، كما شجع مليشياتها، على مواصلة التهديدات والاستمرار في ارتكاب أعمال الإرهاب.
أما الآن، فلم يعد من المناسب تقديم المزيد، لأن ذلك سوف يعني تشجعا إضافيا لتلك الأعمال، لا سيما وأن بعض بنود الاتفاق تفرض قيودا على إدارة "البيت الأبيض" تمنعها من العودة عن الاتفاق أو فرض عقوبات عندما تعود إيران أو مليشياتها لممارسة الأعمال نفسها، ما دام الاتفاق لم يعد يشمل هذا الموضوع.
كل هذا إنما يؤكد أن الميت قد مات، بسبب هذه الأعمال، وليس بسبب الاختلاف حول هذا الشرط أو ذاك في الاتفاق.
يمكن الافتراض بأن إدارة الرئيس جو بايدن عادت إلى التفاوض بنيّات حسنة. ومثلها كانت نيّات دول المنطقة التي أرادت أن تضع حدًّا لكل المشكلات، ولكي تُرفع عن إيران كل العقوبات، ويُعاد بناء العلاقات الإقليمية على أسس الشراكة والتعاون والمنافع المتبادلة، بدلا من أسس التهديد والاعتداء والإرهاب.
ولكن إيران هي التي اختارت أن تُضيّع هذه الفرصة. لأنها دخلت مفاوضات فيينا بنيّات أخرى، تقصد الخداع لأجل الفوز برفع العقوبات والاستمرار في سياسات زعزعة الاستقرار.
وقد يمكن إحياء الاتفاق، ولكن، ليس لأجل تسوية في الشروط، وإنما لأجل إعادة النظر في الأسس، بين أن تبقى إيران كقوة تهديد واعتداء، وبين أن تصبح دولة تعاون وعلاقات حسن جوار.
وجود سلاح نووي أو عدم وجوده أمر ثانوي تماما حيال هذه الأسس. إذ ما نفعُ عدم وجود سلاح نووي إذا بقيت أعمال القرصنة والتهديدات كما هي؟ وما الخطر من وجوده إذا كانت إيران دولة أمن وسلام لنفسها وللآخرين؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة