كل ظاهرة فى الوجود الطبيعى والاجتماعى تخضع لقانون يفسرها، على حد تعبير ابن خلدون، وهى صياغة وضعية لنص قرآنى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).
كل ظاهرة فى الوجود الطبيعى والاجتماعى تخضع لقانون يفسرها، على حد تعبير ابن خلدون، وهى صياغة وضعية لنص قرآنى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).
الحرب الباردة التى تحوم على حوض النيل وتوشك أن تلتهب متصلة بانسداد فكرى سياسى ودبلوماسى، علينا أن ندرك أبعادها لنبطل مفعولها. فيما يلى أحصى أهم أسبابها:
1. لا توجد علاقات دافئة بين دول حوض النيل كما ينبغى لشعوب تشرب من مورد واحد.
2. العلاقات بين دول شمال وجنوب الصحراء يابسة.
3. العلاقات العربية الأفريقية عامة ليست كما يتطلبه أن معظم العرب أفارقة المسكن، وأن معظم سكان أفريقيا جنوب الصحراء كمعظم العرب مسلمون.
4. الوضع القانونى فى حوض النيل ظل كما هو منذ العهد الإمبريالى، رغم أن دول منابع النيل منذ ستينيات القرن الماضى أعلنوا رفضهم له.
5. عندما أبرمت مصر والسودان اتفاقاً حول مياه النيل فى عام 1959م اتفقت الدولتان على ولاية ثنائية على مياه النيل ورفضتا مشاركة دول الحوض الأخرى لهما.
6. حتى تسعينيات القرن الماضى، عزفنا نحن فى مجرى ومصب النيل عن محاورة دول المنابع لكى تواجه بالأمر الواقع.
7. بناء السد العالى فى مصر دخل فى مساجلات الحرب الباردة، وأقدم المعسكر الشرقى على بنائه بعد إخلاف المعسكر الغربى وعده.
8. المعسكر الغربى الذى هزم فى المساجلة حول السد العالى وفى تداعيات تأميم قناة السويس أقبل على تقديم دراسات لسدود فى إثيوبيا، ومنها سد النهضة فى 1964م. ظلت هذه الدراسات موجودة إلى أن قررت إثيوبيا فى 2009م بناء سد النهضة.
قال نبيل فهمى، وزير خارجية مصر السابق: «نحن أخطأنا فى الماضى فى تعاملنا مع إثيوبيا، وقد عرضوا علينا بناء سد أقل بكثير من حجم سد النهضة ولكننا رفضنا، وهذا بصراحة بسبب العجرفة وغياب التقدير الاستراتيجى السليم». (المصرى اليوم 27 /7/ 2016م) وحتى فى أمر السد جاء فى صحيفة الشروق (17 /12 /2016م) أن وزيراً إثيوبياً عرض فى مؤتمر صحفى فى الخرطوم على مصر والسودان الإدارة والانتفاع والتمويل المشترك لسد النهضة، ولكنهما تجاهلا هذا العرض.
9. ومنذ ظهرت دراسات سدود إثيوبيا لم تتحرك دبلوماسية نشطة للتعامل مع إثيوبيا، لدرجة أن رئيس الوزراء الإثيوبى قال لى فى عام 1997م: «أنتم فى مجرى ومصب النيل تتعاملون معنا كأن أمر النيل لا يهمنا. وفى عام 1959م أبرمتم اتفاقاً ثنائياً يواجهنا بالأمر الواقع. ولعلمك سيأتى يوم نتصرف كما نريد كما فعلتم، أى تصرفتم كما أردتم».
10. نتيجة لإقصائنا دول منابع النيل تحالفت ضدنا. لا شيء يجمع بين دول الهضبة الاستوائية ودولة الهضبة الإثيوبية حول النيل إلا الموقف المشترك ضد دولتى اتفاقية 1959م.
11. عندما صارت فكرة بناء سد النهضة واقعاً سمع الإثيوبيون ما جاء فى الاجتماع السرى عام 2013م، وقد كانت القناة مفتوحة، ورد فيها أن مقاومة السد تتطلب دعم المعارضة الإثيوبية والاستعداد لعمل عسكرى لتدميره.
12. وعندما بحثت الحكومة السودانية اقتسام الثروة مع الحركة الشعبية، حصرت أمر الثروة فى البترول، وأغفلت تماماً مياه النيل، مع أنها كانت مناسبة لبحث مصير مياه النيل الأبيض والالتزام بمشروعات جونقلى التى يرجى أن تزيد تدفق مياه النيل 20 مليار متر مكعب.
13. إسرائيل أدركت وجود استقطاب فى حوض النيل، لذلك سعت لتقوية علاقاتها بدول الحوض الجنوبية.
14. الصين، وهى تسعى لتكون الشريك التنموى الأكبر لدول أفريقيا جنوب الصحراء، أقدمت على المساهمة فى بناء السد، كذلك إيطاليا.
15. من أفدح الدلائل على السقوط العربى أن أى اتفاقيات ثنائية بين الدول العربية تتسم بـ«الكلفتة» وعدم الجدوى، وأن النزاعات العربية - العربية تتمدد نحو فضاءات أخرى، ولا سيما حوض النيل.
هذه العوامل الخمسة عشر كان بالإمكان تجنبها إذا توافرت اليقظة الفكرية والسياسية والدبلوماسية.
إن القضايا المذكورة هنا أوسع من قضية سد النهضة، وتتطلب التصدى لها بالجدية والإحاطة. ولكن سد النهضة سوف يكون أحد مظاهر الإخفاقات فى تناولها، إخفاقات إذا تركت دون علاج سوف تقود لمواجهات ذات عائد صفرى لأطرافها، ما يوجب التعامل مع السد النهرى بالتخلى عن الانسداد الفكرى.
أبدأ بالنص على مسلمات استراتيجية فى حوض النيل:
مسلمات عشر، هى:
1. السيادة على مياه النيل مشتركة. الاتفاقيات الموروثة منذ 1902م راعت واقع تلك الظروف واحتكرتها لدولة المصب. يحمد لدول الحوض الأخرى أنها تتطلع لجعلها مشتركة خلافاً لما عليه الحال فى حوض الرافدين وفى حوض الأردن. فإن مصلحة دولتى المجرى والمصب الحرص على موقف السيادة المشتركة.
2. نهر النيل وهو أطول أنهار العالم، تهطل فى منابعه ومجراه أمطار تزيد على ألفى مليار متر مكعب. ولكن دفق مياه النيل كما يقاس فى أسوان يبلغ 84 مليار متر مكعب فى المتوسط. هذه النسبة الضئيلة (4.2%) تتطلب إجراءات لحصاد المياه وتجفيف المستنقعات لزيادة دفق مياه النيل.
3. دولة المصب هى الأكبر اعتماداً على مياه النيل والأكثف سكاناً فى الحوض، والتى نشأت حضارتها اعتماداً على مياه النيل.. عوامل تؤهلها لاستحقاق النصيب الأكبر من مياه النيل. وإن كانت 55.5 مليار متر مكعب كافية لثلاثين مليون نسمة كما فى عام 1959م، فعدد السكان الآن تضاعف مرتين. هذا يتطلب زيادة الحصة، واتخاذ وسائل أخرى فى زيادة العرض من مصادر أخرى وترشيد الطلب للمياه.
4. دول المنابع فى الهضبة الإثيوبية والهضبة الاستوائية ولأسباب مناخية وطبغرافية مؤهلة للإنتاج الكهرومائى بكميات أكبر وبتكاليف أقل.
5. دولتا السودان تملكان ثلثى الأراضى الصالحة للزراعة فى حوض النيل، ما يجعل تلك الأراضى الأكثر صلاحية للاستثمار الزراعى الغذائى والنقدى والنباتى والحيوانى قطرياً، وعن طريق المزارعة للآخرين خاصة لمصر وإثيوبيا.
6. حوض النيل هو الواصل لما فصلته الصحراء الكبرى بين شقى أفريقيا. هذا يحمل عوامل استقطاب جيوسياسى قابل لاستغلاله عدائياً. ما يتطلب تشخيص عوامل هذا الاستقطاب والعمل على إزالته.
7. السودان هو الجار المشترك لمعظم دول حوض النيل، ولا سيما أكبر منتج وأكبر مستهلك للمياه. ويلزمه موقعه الجغرافى بدور توفيق جيوسياسى بينها. هذا هو دور السودان عندما يسترد نفسه من وضعه الطارئ الحالى الذى جعله يتقلب من الموقف لضده بلا بوصلة.
8. الوضع القانونى الراهن فى حوض النيل تأسس فى ظروف توازن قوى تجاوزتها الأيام. هذا ينطبق على اتفاقية 1902م وما بعدها. إنها ظروف انطلقت من أن مياه النيل مصلحة لمصر حصرياً. واتفاقية 1959م انطلقت من أن مياه النيل مصلحة لمصر والسودان. دول حوض النيل الأخرى نفضت يدها من ذلك الوضع القانونى، ما يتطلب مراجعة بالتراضى بين دول حوض النيل كافة.
9. فى 1997م أجازت الأمم المتحدة اتفاقية استخدامات المجارى المائية فى الأغراض غير الملاحية. نصوص الاتفاقية عمومية. ولكن دول حوض النيل لم تجمع على توقيعها. يرجى أن تُجمع على ذلك لإدخال البعد الدولى فى مصير حوض النيل.
10. فى فبراير 1999م، انطلقت مبادرة حوض النيل التى أثمرت توافقاً حول قضايا كثيرة بشأن مياه النيل، والنتيجة اتفاقية إطارية لحوض النيل ومفوضية مشتركة لدوله. ولكن بعض النقاط الخلافية حالت دون الإجماع على هذه المعاهدة، أهمها:
■ الإبقاء على الواقع الحالى فى حوض النيل باعتباره مكتسباً.. أم تعديله باعتباره مغيباً لمصالح دول أخرى فى الحوض.
■ النقطة الثانية المهمة حول كيفية اتخاذ القرارات فى المفوضية بالأغلبية أم بالإجماع. هذا الاختلاف أدى لاستقطاب حاد فى حوض النيل، وهو استقطاب يغذى حرباً باردة مضرة لطرفيها.
هنالك إمكانية لتجاوز هذه الخلافات كالآتى:
(أ) أن يُقبل مبدأ تعديل الواقع القانونى الحالى فى حوض النيل، بشرط ألا يؤدى لفقر مائى لأى دولة من دول الحوض. الفقر المائى يعرف حسب الاصطلاح الدولى.
(ب) التصويت للقرارات فى المفوضية يقوم على أساس صوت لكل 10 ملايين من السكان فى البلاد المعنية، على أن تتخذ القرارات فى المسائل العادية بالأغلبية، وتتخذ القرارات فى المسائل المهمة بأغلبية الثلثين.
(ج) توجه الدعوة لمؤتمر قمة لدول حوض النيل لإجازة الاتفاقية الإطارية بالإجماع. كذلك يُعتمد تكوين المفوضية لحوض النيل كآلية للتداول بشأن مياه النيل، وتُصدر من مؤتمر القمة هذا معاهدة كمرجعية متفق عليها لمياه النيل. وتودع هذه المعاهدة لدى الاتحاد الأفريقى والجامعة العربية والأمم المتحدة.
قبل الدعوة لمؤتمر القمة هذا، هنالك حاجة لإجراءات بناء الثقة، ولإزالة آثار الملاسنة التى سببتها الآراء المذاعة من اجتماع الرئيس المصرى ورؤساء الأحزاب المصرية ونقلت للرأى العام مباشرة، لأن آلية الإذاعة كانت مفتوحة، بينما كان المجتمعون يظنون أنهم فى جلسة سرية. إذاعات أعطت صدقية للاتهامات الإثيوبية وسممت المناخ بين مصر وإثيوبيا. التحدى أمام الدبلوماسية المصرية هو العمل على إزالة آثار تلك التصريحات واحتواء المضار، وتأكيد عدم التدخل فى شؤون الغير.
المناخ السلبى الذى أفرزه الخلاف حول سد النهضة يتطلب أن نضع آثار السد فى الميزان ما بين منافعه ومضاره بغية التعرف على المنافع واحتواء المضار.
ميزان سد النهضة:
(أ) بالنسبة للسودان فإن سد النهضة الإثيوبى يحقق له نفس الفوائد التى حققها السد العالى لمصر من حيث حماية البلاد من الفيضانات، وتنظيم انسياب المياه، والإنتاج الكهرومائى بثلث التكلفة إذا استوردها، واحتواء الإطماء ما يزيد من عمر السدود السودانية، وتقليل نسبة تبخر مياه تخزن فى طقس غرب إثيوبيا المعتدل بدل نسبته فى طقس جنوب مصر الحار.
(ب) على طول الفترة منذ قيام السد العالى، كان متوسط دفق مياه النيل كما يقاس فى أسوان أكثر من 90 مليار متر مكعب، كما كانت هنالك 6 مليارات متر مكعب من نصيب السودان الذى لم يستغله، هذه المياه كانت تخزن فى بحيرة السد العالى، وتمثل زيادة على نصيب مصر المقرر بموجب اتفاقية عام 1959م.
مصر سوف تحرم من هذه المياه الزائدة، وسوف يقل مستوى المياه فى بحيرة السد العالى بما يخفض إنتاج السد العالى الكهرومائى بنسبة 25%، ولكن إنتاج كهرباء سد النهضة للظروف الطبغرافية سوف يكون بثلث تكلفة كهرباء السد العالى، وبالاتفاق المزمع سوف يتاح لدولتى المجرى والمصب الاستيراد من تلك الكهرباء.
إن كمية مياه النيل الدافقة قابلة للزيادة بعشرين مليار متر مكعب إذا نفذت مشاريع جونقلى، وبما يمكن توفيره عن طريق نقص البخر من 10 مليارات متر مكعب فى أسوان إلى مليارين فى الهضبة الإثيوبية، وهنالك إمكانية لزيادة حصاد المياه فى النيل، هذا بالإضافة لإمكانية حقن مياه النيل من نهر الكونغو.
(ج) وبالنسبة لمصر والسودان هنالك ضرران محتملان هما:
■ حدوث اضطرابات جيولوجية تدمر السد، ما ينذر بإغراق مدمر فى السودان خاصة، ويهدد السد العالى. هذا الاحتمال وارد فى حالات كل السدود.
■ وفى حالة حدوث خلافات سياسية حادة يمكن لإثيوبيا استخدام الماء سلاحاً سياسياً. هذا وارد فى كل الظروف، حتى إن أحد أباطرة إثيوبيا لوح به. السبيل الوحيد لمواجهة هذا الاحتمال هو أن يتفق على معاهدة حوض النيل، وأن تودع المعاهدة لدى الأمم المتحدة ومعها التزام دول حوض النيل بها، ويعامل الإخلال بها كتعدٍّ على الأمن القومى للدولة المتضررة، وبالتالى حقها فى الدفاع عن نفسها بتأييد دولى.
على أساس هذه المفاهيم يرجى أن تتفق دول مجرى ومصب النيل الأزرق على ثلاثة أمور هى: الالتزام بقبول توصيات الهيئة الفنية المكلفة، واتفاق على طول فترة ملء السد الإثيوبى، والاتفاق على ضوابط إدارية لإدارة سد النهضة بالصورة التى تأخذ فى الحسبان مصالح دولتى المجرى والمصب.
إن التفكير فى سد النهضة يعود لظروف الحرب الباردة فى عام 1964م، وزيادة السكان فى إثيوبيا، والمطالب التنموية أدت لاتخاذ القرار ببنائه فى عام 2009م. ولكننى منذ عام 1999م رأيت نذر نزاع فى حوض النيل ما دفعنى لتأليف كتابى: «مياه النيل: الوعد والوعيد» أطروحة هذا الكتاب هى أن النزاع حول مياه النيل حتمى، وعلينا أن نعمل على تجنب آثاره المدمرة. وبالتوافق، نحقق التعاون النافع لكل دول الحوض. ولكن هذا الإنذار لم يجد آذاناً مصغية، فكان ما كان.
الوفاق بين دول الحوض يزيل التنازع ويسهم فى زيادة دفق مياه النيل بعشرين مليار مكعب إذا نفذت مشاريع جونقلى، وبزيادة كبيرة عن طريق حصاد المياه فى النيل، وربما مكنت التكنولوجيا من حقن مياه النيل من نهر الكونغو الذى يبلغ دفقه عشرة أضعاف دفق مياه النيل.
فى كتابى، اقترحت أخذ عوامل استراتيجية فى الحسبان: فك ضائقة الأراضى الصالحة للزراعة فى مصر وإثيوبيا عن طريق المزارعة مع السودان، إتاحة الإنتاج الكهرومائى فى أعالى النيل لدول الحوض الأخرى أسفل النيل، أخذ مطالب الكثافة السكانية ولا سيما فى مصر وإثيوبيا فى الحسبان، ضرورة ترشيد استهلاك المياه، ضرورة الاهتمام إلى أقصى حد بالمياه البديلة، ولا سيما التحلية عن طريق الطاقة الشمسية.
أى المطلوب أن يكون الوفاق حول مياه النيل متحركاً مع الواقع لا جامداً على الماضى.
من فوائد الخلاف حول سد النهضة أنه جعل التعرف على مشاكل حوض النيل والتصدى لها أكثر إلحاحاً.
تسوية الخلاف حول سد النهضة تتعلق بنصف مياه النيل. ما يتطلب أن تشمل التسوية النصف الآخر. كذلك فإن هذه التسوية حول السد تخص ثلاثا من دول الحوض، بينما المطلوب أن يشمل الأمر بقية الدول الإحدى عشرة.
هكذا يمكن تحويل أزمة السد النهرى إلى فرصة لتجاوز الانسداد الفكرى.
*نقلاً عن "المصري اليوم"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة