إذا ما شددت الرحال إلى إيثاكا فلتتمنّ أن يكون الطريق طويلاً حافلاً بالمغامرات، مليئاً بالمعارف. لا تخش الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب
إذا ما شددت الرحال إلى إيثاكا فلتتمنّ أن يكون الطريق طويلاً حافلاً بالمغامرات، مليئاً بالمعارف. لا تخش الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب، فإنك لن تلقاها في طريقك ما دام فكرك سامياً، والعاطفة الخالصة تقود روحك وجسدك. لن تقابل الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب ما لم تكن قد جلبتها معك في أعماقك، وما لم تكن روحك قد أقامتها أمامك (...). توقف عند أسوار سورية واحصل على البضائع الجيدة، أصداف ومرجان وكهرمان وأبنوس وعطور ممتعة من كل الأنواع (...) واذهب إلى مدائن مصرية كثيرة لتتعلم وتتعلم من الجهابذة (...). لتكن إيتاكا في فكرك دائماً والوصول إليها مقصدك (...)». هذه سطور من واحدة من أجمل قصائد الشاعر اليوناني «الإسكندري» قسطنطين كافافي. تلك القصيدة - هنا بترجمة عن اليونانية مباشرة للدكتور نعيم عطية -، التي يفترض أنه كتبها عن المدينة التي ارتبطت باسم يوليس ورحلته الشاقة إلى الديار بعد غربته الطويلة. لكن إيثاكا كافافي ليست إيثاكا الإلياذة. بل هي مدينة كل مكان واللامكان. وربما هي أيضاً الإسكندرية نفسها. لكنها إسكندرية معلقة في فضاء الذاكرة والتاريخ. ومن هنا نتذكّر كم تفاقم استعمال القصيدة لدى مبدعين مصريين وغير مصريين رأوا فيها «إسكندريةً ما...»، - كما عند السينمائي إبراهيم البطوط في أول أفلامه وأجملها -، تماماً كما استعمل آخرون قصيدة «مدينية» وربما «إسكندرانيةً» أخرى لكافافي نفسه، هي هذه المرة «المدينة» - كما في فيلم «المدينة» ليسري نصر الله -.
والحقيقة أن هذه «الاستعارات» الفنية من شعر كافافي جديرة بأن تجعل منه شاعر المدينة بامتياز. ولكن ليس تماماً شاعر مدينته التي عاش فيها وارتبط اسمه بها، من دون أن يعوّل هو كثيراً على ذلك، على رغم الانطباع المعاكس السائد. فمن إي أم فورستر إلى لورانس داريل، ومن أونغاريتي إلى كافافي، كان كبيراً عدد المبدعين الأوروبيين الذين ارتبط اسمهم باسم مدينة الاسكندرية، ثغر مصر على البحر الأبيض المتوسط. ومن بين هؤلاء، من المؤكد أن كافافي كان الأكثر ارتباطاً بهذه المدينة الأخاذة، إلى درجة جعلت البعض يعتبره شاعرها، وجعلت لورانس داريل حين كتب «الرباعية الاسكندرانية» يتخذه واحداً من شخصياتها. وكافافي، الذي يعتبر إلى جانب ريتسوس وسيفيرس، من أكبر شعراء اليونان المعاصرين، عاش في الاسكندرية القسم الأكبر من سنوات حياته، لكن الغريب أن ارتباطه بالمدينة ظل ارتباطاً خارجياً، بحيث أننا بالكاد إذ نقرأ الشعر الذي كتبه عن المدينة، نشعر أن الاسكندرية تمت لمصر وللعرب بأي صلة من الصلات، في معنى أنه حتى حين كان يتحدث عن «المدينة» بالمفهوم العام للكلمة، كان بالتحديد يعني الإسكندرية ولكن ليس تلك المصرية التي كان يعيش فيها، بل تلك التي، كما رأينا بالنسبة إلى إيثاكا، هي الكناية عن كل مدينة وعن أيّ مدينة.
> فإذا تذكرنا أن هذا الشعور نفسه هو الذي يخالجنا إذ نقرأ الأجزاء المتلاحقة من رباعية داريل الاسكندرانية، حيث لا يكون المصريون سوى ديكور في خلفية الأحداث، يصبح من حقنا أن نتساءل عن النظرة التي نظرت بموجبها إلى الاسكندرية أو غيرها، تلك الجاليات التي جاءت تعيش في مدن المشرق أو المغرب، فإذا بها لا تندمج في حياة المدينة، وتفصل المدينة نفسها عن حياتها الطبيعية وعن جذورها لتستوعبها وتشكلها هكذا منفصلة عن كيانها ومعلقة في الهواء.
> طبعاً لا نأتي بهذا الكلام هنا على سبيل الإدانة، بل على سبيل الأمر الواقع، لنقول إن ثمة في الأمر مشكلة حقيقية تتعلق بجوهر العلاقة بين الأقليات الأجنبية وبين الأماكن التي استقبلتها، حتى حين لا يكون مكان الاستقبال موقتاً كما في حالة كافافي. فكافافي، كما هو معروف، ولد أصلاً في الاسكندرية في 1863، وهو لئن كان مات في أثينا عام 1933، فانه انتمى إلى أبوين أصلهما من إسطنبول أقاما في مصر منذ 1845.
وكان الأب تاجراً ثرياً غير أنه كان مبذراً، وهكذا حين توفي في مصر في 1876، وكانت الأسرة مقيمة هناك، اضطرت للتوجه إلى بريطانيا حيث عاشت ثلاثة أعوام، عادت بعدها إلى مصر في 1879، لتبارحها في 1882 إثر الثورة العرابية، ولكن هذه المرة إلى إسطنبول. ثم ما أن هدأت حدة الأحداث المصرية حتى عادت الأسرة ثانية إلى مصر في 1885. ونحن إذا كنا قد تحدثنا عن هذا الذهاب والإياب، فلكي نشير إلى ارتباط كافافي منذ طفولته بمصر، وإلى أنه لم يغب عنها سوى عدد قليل من السنوات. وهو منذ حصوله على وظيفة في مصلحة الري في القاهرة في 1889 لم يغادر مصر إلا بشكل متقطع ونادر، حيث نراه يمضي في عمله 34 سنة كاملة فلا يتركه إلا في 1922. فكيف حدث لشخص عاش كل هذه السنوات في مصر، وشغل وظيفة عامة تضعه على احتكاك يومي بالناس وبالفلاحين، أن غابت مصر وشعبها عن شعره إلى هذا الحد، فإن ظهرت مصر أو الاسكندرية ظهرت تحت ملامح ماضيها الإغريقي البحت؟
> بإمكاننا، بالطبع، أن نعثر على جزء من الجواب في اختيارات كافافي الشعرية نفسها، كما تجلت في كتاباته التي راحت تظهر بشكل مكثف خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، أي السنوات التي شهدت تفجّر موهبته بعد أن اختزنت الموهبة ذاتها في ذاكرته غير مفصحة عن نفسها قبل ذلك. فالحال أن كافافي الفنان كانت تتعايش في داخله نزعتان فكريتان: النزعة الأولى تقوم على استعادة الماضي استعادة عقلانية، والثانية على التعبير القلق عن حساسيته الملتبسة والمبهمة التي جعلت منه شاعراً حقيقياً. وهذه الحساسية ارتبطت أساساً بفترة شبابه وأتت معبرة عنها، وهكذا امتزجت لديه النزعتان لتصبحا في سنوات النضوج كلاً واحداً، يربط بين انغلاقه على ذاته وعلى هواجسه، وبين رغبته في أن «يخلّد» الطابع الإغريقي لمدينة الاسكندرية، ضارباً الصفح عن كل مراحل تاريخها وواقعها وأهلها.
> بهذا المعنى يمكننا أن نقول إن كافافي - مثله في ذلك مثل إزرا باوند، ولكن من منطلق جمالي مختلف كل الاختلاف - كان يرسم أمام ناظريه، وبالتحديد في قصائد له تكاد تكون متماثلة كليّة مع «إيثاكا»، مثلاً أعلى حضارياً وجمالياً يرتبط بالعصور الهيلنستية (الإغريقية) القديمة، ولا يكون فيه أي متسع للزمن الراهن. أما الزمن الراهن فهو زمنه الخاص، زمن هلوساته الداخلية وانغلاقه على نفسه وبحثه الدائم عن جمال غارب لا وجود له في عالم اليوم.
> كان كافافي يرى أن العصور الذهبية للفكر والكرامة الإنسانيين هي العصور الإغريقية والبيزنطية، كما كان يرى أن الاسكندرية - المدينة الكوزموبوليتية بامتياز - كانت تمثل في تلك العصور، انفتاح اليونان وأوروبا على عالم الشرق وسحره وميتافيزيقيته. وهذا ما جعله، كشاعر، يرتبط بتلك الأزمان جاعلاً من الاسكندرية رمزها ومفتاحها.
> ولكن هل يكفي هذا التفسير حقاً كمبرر لعدم وجود أية علاقة بين كافافي ومصر؟ وفي هذا الإطار هل من قبيل الصدفة أن يلتقي فورستر وداريل وكافافي وأونغاريتي على هذا التجاهل للبلد الذي يعيشون فيه؟ إن قلنا إن البلد نفسه كان مسؤولاً عن ذلك، تطلع أمامنا صورة كُتّاب آخرين فتنوا به ليس كتاريخ وجمال، بل كفاعلية إنسانية كذلك (لوتي، غوتييه، فلوبير... الخ). فهل لنا أن نستنتج من هذا أن ثمة من بين شعراء وكتّاب الجاليات الأجنبية الذين عاشوا في مدن مثل الاسكندرية وطنجة والجزائر وبيروت، من تملكتهم في أعماقهم - وفي لاوعيهم - نزعات شبيهة بتلك التي دفعت المستوطنين الفرنسيين في الجزائر إلى اعتبار الجزائر فرنسية، ما أوصل بعضهم إلى النظر إلى وجود العرب من سكانها على أنه وجود عابر؟
> في حالة الناس العاديين يمكن لمثل هذه النظرة أن تجد تبريراً، وفهماً وتفهماً بالطبع، ولكن حين ينظر المبدعون - والمبدعون الكبار من طينة كافافي - إلى الوضع مثل هذه النظرة، يصبح من حق المراقب أن يطرح العديد من الأسئلة حول خصوصية إبداعهم، سواء كان شعراً أو رواية أو حتى كتابات تاريخية. ويمكن، كذلك، طرح العديد من الأسئلة حول المسؤولية في قيام تلك الغيتوات في مدن الشرق حين كانت تضم أجانب يرفضون كلية الاندماج في حياة البلد وحياة أهله.
*نقلاً عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة