لجأ الإنسان إلى الموسيقى لأن لغته لا تتسع لكل معانيه، وابتكر الآلات لأن صوته لا يستطيع أن يظهر كل انفعالاته، فالألحان والإيقاعات إنما هي في فطرة الإنسان
لجأ الإنسان إلى الموسيقى لأن لغته لا تتسع لكل معانيه، وابتكر الآلات لأن صوته لا يستطيع أن يظهر كل انفعالاته، فالألحان والإيقاعات إنما هي في فطرة الإنسان
قد تنصت لصديقك وهو يحكي لك مغامرته الرومانسية، لكنك لن تنصت له إذا نظمها شعرا أو أغنية!.
قد تتابع مشهدا جريئا في فيلم أو رواية بتفاصيله، لكن لن تستسيغه في قصيدة أو أغنية!.
كيف نقبل ذلك في الفيلم والرواية ونرفضه في الأغنية والشعر؟.
الحقيقة، لسنا نحن من نرفض، لكن عنصرا شريفا في الأغنية والشعر هو الذي يرفض، إنه الموسيقى.
الموسيقى تقوم على تقطيع منظم للزمن، يظهر في ما نسميه "الإيقاع"، فكما نضع علامات على المكان ليكون منظما وجميلا، فكذلك نضع علامات في الزمان ليكون منظما وجميلا، وقد يكون التوقيع صامتا عبر تحريك القدم أو الرأس أو اليد بانتظام، أو مسموعا كالضرب على الطبل، أو في صوت منظم ممتد.
حتى عند الفيزيائيين لا يوجد تعريف محدد للزمن، واصطلح الناس على معرفة الوقت بالحركات "حركة الكواكب، عقارب الساعة"، فبدون الأحداث والحركة فإن ما نسميه الزمن لا وجود له، والمادة التي يتعامل معها الإيقاع هو هذا الزمن الذي نولد على نقطة منه ونموت عند نقطة أخرى، وهو ممتد قبلنا ومعنا وبعدنا. وحدها الموسيقى تنظمنا على خط الخلود.
حين نقف أمام لوحة فنية ستكون عينك في زاوية منها وعيني على زاوية أخرى منها، لكن حين نسمع أغنية معا فنحن في اللحظة ذاتها، ولا يمكن لأحد أن يسبق أحدا، نحن والمغني والموسيقيون والجمهور والراقصون الذين يضبطون حركاتهم على المكان وعلى الزمان معا.
الموسيقى توحد بين الجميع وتضبطهم في "المكان الزمني" نفسه. وحدها الموسيقى توحدنا.
لو شاهدنا معا فيلما سينمائيا مدته ساعتان، فإن تأليف قصته ربما استغرق سنتين، أما الأحداث داخله فقد حدثت في عشرين سنة مثلا، لكنه أخذ من زمننا/ عمرنا الحقيقي ساعتين، وكذلك الرواية، أي أن الزمن داخلها يختلف عن زمننا الحقيقي، أما حين نسمع عازف إيقاع لخمس دقائق فهو يأخذ من عمرنا الحقيقي خمس دقائق. وحدها الموسيقى تتعامل مع ما هو حقيقي فينا.
الرضيع الذي لا يعرف الشهوات والفحش يستجيب للإيقاع بهجة وسكونا ورقصا، وكذلك الشيخ الذي انتهى كل إحساسه الشهواني يستمتع بدندنة الألحان والأهازيج. وحدها الموسيقى يستجيب لها الإنسان من الطفولة إلى الشيخوخة، لأنها تلاغي السامي فينا وأشواقه، لا الفاني وشهواته.
حين نغدو حزنا محضا أو فرحا محضا، فإننا نلجأ إلى الإيقاع لنعبر أعلى عن شعورنا كالطالب الذي يرقص فرحا بنجاحه، أو كالأم التي تفجع بولدها، فإن صراخها وعويلها يخرج موقعا منتظما. وكذلك الحال في تكبيراتنا يوم العيد وفي تلبيتنا للحج، نحاول أن نكون صفاء خالصا فنلجأ، فرادى وجماعات، لتنغيم التكبير والتلبية، نلجأ للموسيقى فهي وحدها طريقنا للصفاء الروحي أو هي نحن حين نكون، أو نريد أن نكون، في أصفى حالاتنا وأعلاها.
لا يمكنك أن تشارك في رسم لوحة مرسومة سلفا، ولا في منحوتة أثرية، ولا في أحداث رواية كتبها غيرك، لكن الموسيقى تسمح لك بإعادة إنتاجها أو بالدخول معها بصوتك أو دندنتها بنفسك بلا آلات، ليس ذلك فحسب، بل وتجعلك تنتج فنا آخر من عندك كأن ترقص، أي تضبط حركات جسدك على إيقاعها. وحدها الموسيقى فن مفتوح للكل ليعيدها بنفسه أو بآلته أو يستجيب معها بجسده.
الموسيقى وحدها، بين كل الفنون، تنظمنا وتوحدنا وتتعامل مع السامي والخالد والحقيقي فينا، ولهذا "فكل الفنون تسعى لتكون موسيقى" كما يقول "غوته".
لجأ الإنسان إلى الموسيقى لأن لغته لا تتسع لكل معانيه، وابتكر ويبتكر الآلات لأن صوته لا يستطيع أن يظهر كل انفعالاته، فالألحان والإيقاعات إنما هي في فطرة الإنسان وتصدر منه ولا تنفك عنه ولا ينفك عنها، والآلة تظهرها فقط، وإن كان هناك من يكره آلات الموسيقى أو يمنعها فعليه أن يكره ويمنع الإنسان أولا، أو يعيد خلقه، إن استطاع، ويسحب منه ما أودعه الله، تعالى، فيه من حاجة فطرية للموسيقى.
*نقلاً عن "الوطن أون لاين"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة