تعتري أسعار النفط خلال الأيام الأخيرة حالة من القلق فلا تستقر على حال، وإذا كان هذا هو وضع السوق في أحيان كثيرة.
تعتري أسعار النفط خلال الأيام الأخيرة حالة من القلق فلا تستقر على حال، وإذا كان هذا هو وضع السوق في أحيان كثيرة، إلا أنه في الآونة الأخيرة كان الجديد هو الانتقال السريع من تبرير لآخر لحالة الارتفاع أو الانخفاض، والمثير أن هذا التبرير لم يتفاوت من يوم لآخر مثلا، بل تفاوت من ساعة لأخرى، حتى بتنا نرى ارتفاعا بالغا في سعر برميل النفط أثناء جلسة التداول وفقا لتوقع وتبرير معين، ثم تنتهي الجلسة على انخفاض في هذا السعر نتيجة توقع أو تبرير مخالف تماما.
ترى كثير من بلدان الإقليم أن نقص العائدات النفطية الإيرانية، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها والاحتجاجات التي تشهدها، ستعني تقليص قدرات إيران على التمدد خارجيا، وبما يمثله هذا التمدد من تهديد مباشر ومعلن للأمن القومي لعدد من جيرانها
والمنطق وراء هذا التقلب هو توفر مناخ عام يساعد على زيادة حمى المضاربة في سوق النفط. ويغذي هذا المناخ بشكل عام زيادة عدد المجاهيل في المعادلة التي تحدد السعر، بما يدفع نحو حالة من الترقب تتبعها حالة من التوقع لما يمكن أن يستقر عليه الحال. ويأتي على رأس هذه المجاهيل ما يتصل بجانب العرض، خاصة كمية النفط الإيراني التي يمكن أن تغيب عن السوق مع قرب دخول العقوبات الأمريكية على إيران مداها الكامل بعد الرابع من نوفمبر المقبل، والتوقعات هنا تغذي ارتفاع الأسعار حتى تتوقع ما يقرب من 100 دولار للبرميل من نوع برنت مع نهاية هذا العام، وما يتراوح بين 120-150 دولارا للبرميل بعد عام ونصف من الآن.
ويأتي على رأس المجاهيل أيضا تلك التي تتصل بجانب الطلب تأثير حروب التجارة وانخفاض أسعار صرف العملات مقابل الدولار كعوامل تدفع نحو انخفاض الطلب، وبما يترتب على ذلك من آثار على السعر، فالبعض يقدر أن السعر لن يشهد أي ارتفاع إن لم يعرف طريقه نحو الانخفاض خلال الفترة المقبلة.
ويحاول كل اتجاه من الاتجاهين السابقين تعزيز الانطباع بصحة توقعاته حتى يحقق ما يهدف له من استقرار الأسعار، على ارتفاع أو انخفاض حسب ما يرى، على الأغلب في الوجهة التي تحقق له مكاسب ضخمة.
ونحن نقع إذا بين حدين، أحدهما يصل بالسعر إلى 150 دولارا في المدى المتوسط، والآخر يرى أن الأسعار لن تشهد أي ارتفاع إن لم تنخفض عن مستواها الراهن الذي يتراوح بين 70-80 دولارا، فأين هي الحقيقة إذا؟ الواقع أن الإجابة ربما تكمن في الحكمة القائلة "إن الحقيقة غالبا ما تقع بين تطرفين"، وحتى إن مالت ناحية أحد التطرفين فهي نادرا ما تتطابق معه تمام التطابق.
وفقا لما سبق أميل لترجيح كفة ارتفاع السعر، ولكن ليس إلى الحدود المذكورة، حيث يتراوح سعر برميل النفط بالقرب من نهاية هذا العام بين 80-90 دولارا للبرميل، ودون أن يشهد زيادة أكبر من ذلك كثيرا خلال العام المقبل، وهذا الترجيح يستند إلى عدد من التوقعات والتقديرات.
التوقع الأول هو أن تبلغ الكمية التي ستغيب عن الأسواق من النفط الإيراني نحو مليون برميل يوميا، ولن تزيد بأي حال عن 1.5 مليون برميل يوميا، وهو أمر يمكن التحقق منه مع مرور الوقت وسيصبح مؤكدا خلال الشهر المقبل، لأن النفط الذي سيتم تسليمه في شرق آسيا في بداية شهر نوفمبر سيكون آخر موعد لتحميله هو منتصف أكتوبر، وإلا تعرضت الشركات والناقلات وشركات التأمين والبنوك التي أسهمت في العملية للعقوبات الأمريكية إذا تم التحميل بعد ذلك، ولهذا نرى أن مستوردين كبارا للنفط الإيراني مثل اليابان، على سبيل المثال، حددت شهر سبتمبر الجاري كآخر شهر تستورد فيه النفط الإيراني.
التوقع الثاني أن من مصلحة البلدان المنتجة والمصدرة للخام، خاصة الأوبك وشركاءها في اتفاق خفض الإنتاج، العودة لزيادة إنتاجهم لتعويض نقص الصادرات الإيرانية، وهذه المصلحة قد تكون سياسية، حيث ترى كثير من بلدان الإقليم أن نقص العائدات النفطية الإيرانية، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها والاحتجاجات التي تشهدها ستعني تقليص قدرات إيران على التمدد خارجيا، وبما يمثله هذا التمدد من تهديد مباشر ومعلن للأمن القومي لعدد من جيرانها.
كما قد تكون هذه المصلحة اقتصادية، مثلما هو الحال في روسيا، إذ كانت روسيا من أوائل الدول التي سارعت لزيادة إنتاجها، بعد الاتفاق على ذلك بين الأوبك وحلفائها خلال يونيو الماضي، وقد صعد بالفعل الإنتاج الروسي بنحو 200 ألف برميل يوميا خلال الشهر الماضي، وبينما يوجه الإيرانيون اللوم لروسيا التي يعدونها حليفا سياسيا لهم على هذه المسارعة بزيادة الإنتاج، إلا أن الموقف الروسي من البداية كان واضحا في براجماتيته الشديدة، ولا يجب أن نتجاهل أن العديد من الشركات الروسية (وبعضها شركات خاصة أو شركات يسهم فيها الأجانب) كانت منذ البداية غير متحمسة لتخفيض مستوى إنتاجها، وكانت تضغط من حين لآخر للسماح لها بزيادة الإنتاج، وهكذا نرى أن هناك تنسيقا على مستوى عال مع المملكة العربية السعودية والأوبك فيما يتعلق بسوق النفط العالمية، وفي الوقت ذاته هناك توافق مع إيران في بعض الملفات السياسية والعسكرية.
والمحصلة أن العديد من الدول داخل وخارج الأوبك، التي تتوفر لديها طاقة إنتاجية فائضة، ستسعى إلى زيادة إنتاجها وصادراتها.
التوقع الثالث أنه حتى وإن اشتدت حروب التجارة وأثرت على مستوى الطلب لفترة من الوقت إلا أن الأرجح، وفي ضوء أنها بالفعل حروب يخسرها الجميع، سيكون هناك اتجاه نحو التوصل لتسويات ما لهذه الحروب، مع تزايد وطأة الإحساس بهذه الخسارة، حيث لن يظل الطلب منخفضا كثيرا إن حدث وانخفض.
والتقدير النهائي هو أن الزيادة في الطلب (لا مستوى الطلب الحالي نفسه) هي التي قد تنخفض قليلا خلال 2019 مقارنة بهذه الزيادة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وحسب التقديرات الأخيرة لمنظمة الأوبك التي تمثل مصالح المصدرين سيزيد الطلب بمقدار 1.4 مليون برميل يوميا خلال العام المقبل، بينما وكالة الطاقة الدولية التي تمثل مصالح المستهلكين ترى أن الطلب سيزيد بمقدار 1.5 مليون برميل يوميا، فالزيادة في الطلب خلال عام 2019، إذا من المتوقع أن تنخفض إلى ما بين 1.4-1.5 مليون برميل يوميا، مقابل زيادة هذا العام من المتوقع أن تبلغ 1.64 مليون برميل يوميا.
ويظل هناك مجموعة كبيرة أخرى من المجاهيل تبدأ من الظواهر الطبيعية التي تؤثر على إنتاج النفط أو تحميله مثل الأعاصير والعواصف وحالة البحار، وانتهاء بالظروف السياسية في البلدان المنتجة، أو العلاقات بين المنتجين وبعضهم البعض، أو علاقاتهم بالمستهلكين وغيرها، لكن يظل المجهول الأكبر الذي يمكن أن يؤثر على المعادلة السعرية بشكل ملموس هو مدى تطور واستقرار الإنتاج في بعض بلدان أوبك المنتجة الكبيرة، مثل أنجولا وليبيا ونيجيريا وفنزويلا، فهنا قد نفاجأ باختفاء كمية كبيرة من العرض، أو على العكس قد نشهد إضافة كبيرة للعرض بين عشية وضحاها، وحينها قد نشهد تطرفات كبيرة في الأسعار نحو الارتفاع أو الانخفاض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة