8 ترشيحات لأوسكار 2019.. "النائب" انتهازية السياسي المثقلة بالدم
آدم مكاي يستبق تترات المقدمة في فيلمه بعرض مشاهد مختارة من زمنين يفصل بينهما 38 عاماً في حياة تشيني
يمارس صانعو السينما نوعاً من الوصاية على المُشاهد من حيث لا يدري، فيفرضون عليه ما يجب أن يراه، وهذا ما استطاع المؤلف والمخرج الأمريكي آدم مكاي فعله بذكاء في فيلمه "النائب" (Vice) الذي يروي حكاية ديك تشيني (كريستيان بيل) نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، إذ ينجح في تجريم "تشيني" وانتهازيته السياسية بطريقة منهجية، وذلك من المشاهد الأولى للفيلم التي تبدأ بالتعاقب على الشاشة قبل ظهور "تترات" البداية.
يستبق آدم مكاي تترات المقدمة في فيلمه بعرض مشاهد مختارة من زمنين يفصل بينهما 38 عاماً في حياة تشيني، فيقدم في الدفعة الأولى منها أحداثاً تدور في عام 1963 للزوج الشاب ديك تشيني الذي توقفه الشرطة لقيادته سيارته مخموراً، ونجده تالياً يلقى تأنيباً حاداً من زوجته "لين" التي تطالبه بالكف عن الشراب والالتفات إلى حياة عائلته، وإيقاف تدهور حياته بعدما دفعته الكحول إلى ترك جامعة "يايل"، لينتقل للعمل في تركيب الإنارة على أعمدة الشوارع.
ووسط هذه المشاهد الذي تُظهِر تشيني مدمناً فاشلاً في بداية حياته، سيمرر المخرج دفعة ثانية من المشاهد تجري أحداثها في عام 2001 وتحديداً لحظة هجمات 11 سبتمبر الشهيرة، إذ نشاهد نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وعدداً من المسؤولين والموظفين في البيت الأبيض يتابعون اللحظات الأولى للهجمات الإرهابية على برجي التجارة العالميين، وسنجد تشيني يدير بصلاحيات رئاسية الأزمة الطارئة ويصدر قراراته الحاسمة لوزير الدفاع بأن "لديك تخويلاً بأن تسقط أي طائرة تعد تهديداً".
سرعان ما يخبرنا التعليق الصوتي في الفيلم بأنه بينما كان الجميع في البيت الأبيض خلال تلك اللحظات يعاني من الارتباك والخوف، كان تشيني يجد فيما يجري "الفرصة" لـ"يغير للأبد مسار التاريخ" وفق ما يراه، واقتناص السلطة من خلف الكواليس.
وبينما يغادر تشيني قاعة الاجتماعات ويمشي في أروقة البيت الأبيض، سيتداخل هذا المشهد مع لقطات سريعة لصور حية ومقاطع فيديو حقيقية تكشف كيف غيّر تشيني مسار التاريخ: غزو أمريكي للعراق وأفغانستان، قصف جنوني للطائرات، موت أبرياء، مشاهد من سجن أبوغريب، اعتقالات، وتفجيرات.
في اختيار هذه المشاهد والتوليف المونتاجي المتداخل بينها، يكمن موجز حكاية ديك تشيني حكاية متهور ومدمن للخمور صعد ليصير أقوى نائب للرئيس في تاريخ الولايات المتحدة، ويصبغ خلال فترة خدمته في هذا المنصب العالم كله بالدم.. ولعل في حرص المخرج على عرض هذه المشاهد قبل بدء تترات البداية للفيلم ما يشي برغبة المخرج بتهيئة مشاهديه لتوقع على أي ضفة يقف الفيلم في مقاربته لحياة ديك تشيني، وربما يريد دفعهم للبحث معه عن أجوبة لسؤال قال آدم مكاي إنه كان الدافع لإنجاز فيلم النائب، وهو على حد تعبيره بالحرف: "كيف استطاع هذا الرجل الغامض (ديك تشيني) الذي لا يتمتع بأي حضور أن يؤثر في التاريخ لهذه الدرجة؟"
مع بداية السرد الروائي للحكاية انطلاقاً من استعداد ديك تشيني لدخول البيت الأبيض للعمل كمتدرب، يلتقط الفيلم التفاصيل الأكثر إنسانية وحميمية في حياة الرجل العائلية، فيقدمه كرب أسرة مخلص لزوجته "لين تشيني" (إيمي آدمز) ومحب لابنتيه الاثنتين "ماري" ( أليسون پيل) و"ليز" ( ليلي راب) إلى حد تخليه عن سباق الرئاسة الأمريكية ليحمي حياة ابنته ماري.
لكن إيراد هذه التفاصيل في مشاهد مطولة، لا يعني أن فيلم "النائب" يريد أنسنة ديك تشيني، وإنما هو يفعل بمقدار ما يحتاجه ليقول إن هذا الأب الذي دفعه حبه لزوجته إلى تغيير سلوك حياته ودفعه حبه لبناته للاستغناء عن بعض طموحه السياسي، هو ذاته الذي تسبب بموت أبناء آخرين هم أمل آبائهم، وحرمان أبناء من آباء يحبونهم.
هكذا يركز الفيلم في جل حكايته على ملاحقة قصة الصعود السياسي تشيني المثقلة بالانتهازية، وقد وجد في رئيس ضعيف وحدث جلل أصاب بلاده وسيلته لتغيير منصب "نائب الرئيس" من وظيفة رجل ينتظر موت الرئيس ليعمل إلى وظيفة المتحكم بشؤون الرئاسة بدرجة "رئيس ظل"، وذلك ليس فقط بسبب حصوله على سلطات إضافية لمنصبه كنائب تتعلق بمسؤوليات تنفيذية بالطاقة والسياسة الخارجية كشريطة للعمل ضمن فريق جورج بوش الابن (سام روكويل)، وإنما بسبب ألاعيبه وقدرته الهائلة على التمدد في مفاصل السلطة وتحكمه بقراراتها المصيرية بالاعتماد على مستشاره القانوني ديفيد أدينجتون (دون مكمانوس) وفريقه الذي يطلعه على الثغرات القانونية، وهو الأمر الذي مكنه بالتعاون مع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد (ستيف كارل) من ترويج لفكرة الحرب على أفغانستان واحتلال العراق في إطار ما عرف بالحرب على الإرهاب.
واعتمد المخرج آدم مكاي على التسريع المونتاجي للمشاهد والقفزات الزمنية في أخرى للإلمام بمسيرة ديك تشيني كاملة منذ عام 1969 حين عمل كمتدرب في البيت الأبيض خلال إدارة نيكسون وصولاً إلى ما بعد انتهاء فترة عمله في عهد بوش الابن بسنوات، فيما يقوم بتوظيف فيديوهات وصور واقعية مدعومة بتعليق صوتي أو مكتوب لرصد عدد الضحايا والخسائر التي خلفتها سياساته سواء من خسائر الجنود الأمريكان وحالات الانتحار بينهم أو موت أكثر من 800 ألف مدني في العراق، وصولاً إلى صعود تنظيم "داعش" وارتفاع عدد ضحايا الإرهاب.
بعدها يقوم المخرج مكاي، اعتماداً على تقنية "الشاشة ضمن الشاشة"، بمنح الفرصة لنائب الرئيس الأمريكي للدفاع عن سياساته وتقديم وجهة نظره فيما يعده العالم وحشية في القتل، ويصفه هو إنقاذاً للبلاد والعالم من حوله، وها هو ديك تشيني أو كريستن بيل يكسر الجدار الرابع لمخاطبة الجمهور لشرح ما فعل من دون أن يبدي ندماً، "فقد اخترتموني وأنا فعلت.. اعتنيت بكم" يقول تشيني.
إلا أن التكنيك الذي استخدمه مكاي في سرد الحكاية سبب أحياناً انقطاعاً في قوس السرد الروائي، وبينما عالج مكاي هذا الانقطاع ببراعة المونتاج الذي يعد بطلاً إضافياً إلى جانب نجوم الفيلم، عاد ليثقل صيرورة السرد بالتعليق الصوتي الذي قدم وظيفة غير سردية في الفيلم، ولكنه قام أحياناً بأداء وظيفة سردية كان من الممكن الاستغناء عنه بإيجاد معادل درامي لها، ورغم ذلك يبقى فيلم "النائب" وثيقة درامية جديدة وجدية (رغم ميلها للكوميديا أحياناً) تدين ما خلفته فترة رئاسة جورج دبليو بوش، وهو الفيلم الثاني من نوعه الذي يتناول هذه الفترة بعد فيلم المخرج أوليفير ستون "دبليو".
ويبقى أبرز ما في فيلم "النائب" هو الأداء التمثيلي الساحر للثنائي كريستيان بيل وإيمي آدامز إذ قدم كريستان بيل في مقاربته لشخصية ديك تشيني واحدة من أهم شخصياته التمثيلية، ونجح في تجاوز فارق العمر بالاشتغال على التفاصيل الشكلية للشخصية إضافة إلى تقمص لغة جسدها واشتغاله على عوالمها الداخلية لا سيما النفسية منها، وعبر هارموني منسجم ما بين أداء من الداخل وآخر من الخارج، للتعبير عن مشاعر وانفعالات الشخصية، بدت شخصية "تشيني" التمثيلية استثناء حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لم يحبوا الفيلم.
بالمقابل كان أداء إيمي آدامز القوي والرفيع لا يقل عما قدمه كريستان بيل، إذ أدت شخصية زوجة تشيني "لين" بجهد تمثيلي كبير في إبداع الشخصية، وكان أهم مشاهدها في حوارتها مع زوجها تشيني لا سيما في المشاهد الأولى من الفيلم حين طالبته بتغيير حياته، إضافة إلى مشاهدها حين قادت حملة زوجها الانتخابية للفوز بمقعد في مجلس النواب الأمريكي؛ لكن للأسف تلك الطاقة التمثيلية العالية غابت في الجزء الثاني من الفيلم بعد أن غيبتها الحكاية لصالح ملاحقة الجانب السياسي المثير من حياة تشيني.
رشح فيلم "النائب" لنيل جوائز الأوسكار في ثماني فئات منها أوسكار أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل سيناريو أصلي، أفضل ممثل (كريستيان بيل) أفضل ممثلة بدور مساعد (إيمي آدامز) أفضل ممثل بدور مساعد (سام روكويل)، ونرجح نيل الفيلم جائزة أفضل ممثل في الحد الأدنى، وربما يضاف إليها جائزتا أفضل ممثلة بدور مساعد وأفضل مونتاج.