الشعب المصري خرج للشارع مطالبا بأمور شتى في مقدمتها الخبز بالطبع، ولكنه كان يدرك أن ثمة أمرا خطأ بالبلاد ظل يبحث عنه لسنوات طويلة.
لم يشهد شهر يناير ثورة واحدة تحتفي بوجودها الصحف والإذاعات والوسائل الإلكترونية بكافة أشكالها مدحا وذما اليوم بعد مرور تسعة سنوات على حدوثها في مصر ومن قبلها في تونس.
كانت هناك ثورة أخرى جرت قبل ذلك وربما لو قدر لها النجاح لما كانت هناك ضرورة لما لحق من ثورات. مضي اثنان وأربعون عاما على وقوع هذا الحدث الهائل عندما خرج المصريون بمئات الألوف أو قيل بالملايين في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ احتجاجا على ارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن السلع التي لم يكن أحد ينتجها إلا الحكومة.
أحداث ١٨ و١٩ يناير كانت في زمن لم تكن فيه الفضائيات التلفزيونية قد وصلت إلى ما نعرفه الآن، ولا كان هناك بالطبع ذلك الحاسب الآلي الصغير، أو الـiPad، أو أي من أنواع الإلكترونيات الحديثة التي تجعل القاهرة أو أيا من عواصم العالم على مرمى ضغطة "ماوس". لم يكن هناك سوى التليفون "الدولي" المكلف جدا من ناحية، أما الأهم فإن مصر لم تكن أحوالها التلفونية على ما يرام من ناحية أخرى.
لماذا تخلفنا ولماذا يستمر تخلفنا؟ وهل صارت إنتاجية العامل أفضل حالا بعد أحداث ١٨ و١٩ يناير المحفورة في الذاكرة القومية؟ أم أن إنتاجية رأس المال قد زادت بعد ثورة يناير التي نحتفل بها هذا الأسبوع أيضاً؟
عرف الأمر الكبير في التاريخ المصري بـ"انتفاضة الخبز"، وعرفته السلطة السياسية على لسان الرئيس السادات "بانتفاضة الحرامية".
الفارق ما بين التعريفين يمكن فهمه في إطار الفجوة بين "الحكومة" و"الأهالي" أو الشعب؛ وهو فارق تنامى عبر الأيام خلال أربعة أعوام تقريبا ما بين نصر أكتوبر ١٩٧٣ الذي وضع الحكم والرئيس السادات شخصيا في أرفع منزلة؛ وحينما جاء تاريخ ١٨ و١٩ يناير كان الحكم قد فقد الكثير من التأييد، وكذلك كان حال الرئيس.
على أية حال فإن ما جرى جرت مراجعته مرات، ولكن الفارق لم يتقلص أبدا، وكان هناك من رأى في تاريخ اليومين جذور ما حدث في ٢٥ يناير ٢٠١١.
ولكن تفسيرات ما جرى في هذين اليومين التاريخيين تعددت؛ فكان هناك من وضعها في السبب المباشر لها وهو الارتفاع المفاجئ للأسعار، وعندما غابت المفاجأة، وجاء الارتفاع مجزءا ومن آن لآخر لم تكن هناك ثورة ولا مليونية.
تفسير آخر ركز على السياسات الاقتصادية الكلية التي قامت على ما عرف في هذا الوقت بالانفتاح الاقتصادي، وأذاعه الرئيس السادات طريقا لرخاء قادم رأى الناس أنه لم يأت فكان الخروج والثورة.
الأمر كان إذن أكثر شمولا ومتعلقا بالسياسات الكلية التي وصفها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بأنها "انفتاح السداح مداح".
لم تكن المشكلة إذن في الحاجة إلى الانفتاح، ولكن المهم ألا يكون سداحا مداحا وهو الأمر الذي لم ينجح أحد حتى الآن في توضيح الكيفية التي يتم بها دون أن يتحول الانفتاح إلى انغلاق آخر.
ومع ذلك فقد شاع أن الانفتاح أدى إلى سوء توزيع الثروة، فكان الشعار الذي تردد في فترات كثيرة من التاريخ المصري أن الأغنياء ازدادوا غنى، أما الفقراء فقد ازدادوا فقرا" وكان هذا كافيا وزيادة لخروج الجماهير إلى الشوارع والميادين.
وكان هناك تفسير ثالث قام على ثورة التوقعات التي جاءت إلى الشعب المصري في أعقاب حرب أكتوبر؛ حيث بدت الحرب و"الانتصار" فيها كما لو أن الأحزان المصرية الكثيرة قد آن أوان نهايتها، ولما وجد الشعب أن أيا من توقعاته لم تجد استجابة كان الرد ثوريا وفي الشارع.
التفسير الرابع جاء بعض منه من الرئيس السادات شخصيا حينما ألقى باللائمة على قوى اليسار المصري سواء كان حزب التجمع الشرعي أو جماعات من المثقفين والشيوعيين الذين لم يعرفوا الشرعية؛ كما جاء من جماعات اليسار ذاتها التي صدقت كلمات الرئيس ومن ثم اعتبرته وساما على صدرها في عملية النضال الوطني لا تزال تتذكره، وتذكر الناس به، حتى الآن بعد أن قدمت التضحيات سجنا واعتقالا وتعذيبا وتشريدا.
الحقيقة هي أننا ربما لن نعرف الأسباب التي أدت لخروج المصريين هذا الخروج المكثف بالآلاف ومئات الألوف؛ بقدر جهلنا معرفة الأسباب التي أدت إلى صمتهم لعقود بعدها، وربما الأجدى في المقام هذا أن يترك الأمر للمؤرخين.
ما نعرفه هو أن الشعب المصري خرج إلى الشارع مطالبا بأمور شتى في مقدمتها الخبز بالطبع، ولكنه كان يدرك أن ثمة أمرا خطأ بالبلاد ظل يبحث عنه لسنوات طويلة.
القصة ربما بدأت في أكتوبر ١٩٧٣ حينما وجد الشعب المصري أن بمقدوره أن يتجاوز هزيمة كبرى حفرت في أعماقه إحساسا بالمهانة كانت على الأرجح الأعمق في تاريخه الحديث بسبب ما تصوره من قوة ومنعة ووحدة عربية "لا يغلبها غلاب".
وبعد "النصر" و"العبور" كان لا بد وأن يتردد في النفس المصرية تلك الأطروحة التي تقول: إذا كانت لدينا القدرة هكذا فلماذا نحن متخلفون إلى هذه الدرجة؛ ولماذا نحن فقراء إلى هذا الحد؟ وكان منهم من تأنى ووضع اللوم على السلطة ومن ورائها أهل الثروة أو حتى القوى الأجنبية التي لا تريد لمصر لا قدرا ولا رفعة.
ولكن المصري كان يعرف في أعماق أعماقه أن كل هذه الإجابات غير شافية، وأفضل ما فيها يعطي جزءا من الحقيقة، فما كان غائبا كان معروفا وهو أن المصريين من خلال نظام محكم، وقيادة حكيمة واستعداد لتحمل الألم والتضحية بالنفس والمال تمكن من العبور إلى حيث يريد ويأمل.
لم يكن الشعب أيامها يريد "إسقاط النظام" ولكنه كان أولا يريد زوال الاحتلال، وثانيا يريد حياة حرة وكريمة. ولكن مثل ذلك لم يكن بقدرة القيادة ولا النخبة، كان الجميع ساعتها يريد حلا سريعا؛ فإما أن تتفجر آبار النفط في مصر؛ وإما أن يقبل العالم علينا حتى ولو كان الثمن صلحا مع إسرائيل بالمساعدات والمنح؛ وإما أن تجد النخبة والقيادة طريقا آخر على الطريقة "الأكتوبرية" كلها دم وعرق ودموع تحقق فيها مصر التراكم الذي لا بد منه في دولة يريد شعبها أن يحيا كريما.
علينا ألا ننسى أنه في عام ١٩٧٧ ومن بعده عام ١٩٧٨ كانت الأعوام التي اتخذت فيها الصين قرارا مصيريا أن تشمر عن ساعديها وتعمل بكل قوة أكثر مما تتكلم بكل حماسة الكتاب الأحمر، وكانت ذات الأعوام التي ولدت فيها "النمور الآسيوية" التي قررت فيها أن تعتمد على نفسها بعد الانسحاب الأمريكي المخزي من فيتنام وجنوب شرق آسيا.
ومن عجب أنه بعد كفاح بهر العالم كله، لم تمض عقود كثيرة حتى لحقت فيتنام نفسها بالركب. هذا الحل الأخير لم يقبله أحد، ولم يشرحه أحد، ولم يفضله أحد، وظلت الطبيعة المراوغة للنخبة المصرية على اليمين واليسار تبتعد عنه لأنه لم يكن سهلا، ولم يكن يزيد الشعبية، وكان أهم ما فيه أنه يبعد المسؤولية عن الجميع ويضعها على كتف طرف آخر.
وكانت هناك دائما وسائل كثيرة للهروب، إلى الهوية مرة، والطبقية مرات، والاستعمار والإمبريالية ومؤامرات من كل نوع في كل المرات.
المؤكد أن هناك طريق آخر صعب، وأذكر حينما كنت مدرسا مساعدا في جامعة شمال إلينوي أثناء دراستي العليا أن زاملت في مكتب واحد بريطانيا كان يبدو قادما توا من الأزمنة الفيكتورية الإنجليزية القحة.
ولسبب أو آخر رددت أمامه ما كنت أحفظه وهو أن سبب الهوان المصري كان الاستعمار البريطاني لمصر حيث استنزفت الثروة المصرية؛ وأخذت القطن المصري رخيصا حتى تزدهر صناعة النسيج البريطانية.
خرج الرجل من بروده الإنجليزي المعتاد وثار ثورة عارمة؛ وكان تقديره أن ما حققته إنجلترا من ثروة رجع إلى ما قدمته الطبقة العاملة البريطانية من تضحيات تجسدت في دماء نازفة بسبب الآلات البدائية للثورة الصناعية الأولى، وعمل النساء والأطفال. ورجع الأمر أيضا إلى الطبقة الرأسمالية البريطانية التي قدمت نظاما محكما للبنوك وشركات التأمين والأسواق والتبادل ليس لبريطانيا وحدها بل للعالم أجمع. كان الأمر في أقل التقديرات أكبر كثيرا من قصة الاستعمار التي كنت مغرما بها.
في كل قصة حكاية، ولكن داخل كل قصة توجد حكاية أخرى فيها بعض المسكوت عنه، وبعضه تجده بين السطور، وآخر يضيفه خيال القارئ.
وآفة حارتنا قد لا تكون فقط هي النسيان، وإنما أن نطرح الأسئلة الأولى لماذا تخلفنا؟ ولماذا يستمر تخلفنا؟ وهل صارت إنتاجية العامل أفضل حالاً بعد أحداث ١٨و١٩ يناير المحفورة في الذاكرة القومية؟ أم أن إنتاجية رأس المال قد زادت بعد ثورة يناير التي نحتفل بها هذا الأسبوع أيضا؟
الثورة الأولي ليست بعيدة عن الثورة التالية التي ربما آلت إلى طريق يضع مصر في طريق الصين وفيتنام ودول أخرى، ولكن هذه قصة أخرى!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة