معادلات هذه الدول تتغير تبعاً للمصالح، وصديق اليوم هو عدو الغد. أما بالنسبة للمنطقة فلا تنطوي المقارنة بين الحلمين على أية فائدة
ما حمله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قمة حلف الناتو في لندن مؤخراً، هو حلم الإمبراطورية العثمانية الثانية. إمبراطورية يتحالف فيها أردوغان مع الخصوم ويحارب الحلفاء، من أجل هدف واحد هو التمدد خارج حدود دولته دون وجه حق، ودون خوف من أية عواقب قد تطاله من دول أخرى.
يتوسع السلطان بحراً في المتوسط ليعتدي على حقوق قبرص ومصر واليونان، ويتعمق براً ليهيمن على مناطق في سوريا وليبيا عبر مليشيات يمدها بالسلاح. هذا بالإضافة إلى احتلاله دول بشكل غير مباشر من خلال تشييد قواعد عسكرية تركية فيها بحجة حمايتها، كما يحدث في قطر ودول إفريقية عدة.
معادلات هذه الدول تتغير تبعاً للمصالح، وصديق اليوم هو عدو الغد. أما بالنسبة للمنطقة العربية فلا تنطوي المقارنة بين الحلمين على أية فائدة. لن يلتقي أي منهما مع مصالح دول المنطقة. ومن يظن نفسه جزءاً منهما اليوم، سيكتشف خطأ حساباته آجلاً أم عاجلاً
يصعب التفريق بين الحلم العثماني والحلم الفارسي في السيطرة على شعوب ودول بحجج باطلة وواهية، من قبيل مساندة ثورات أو حماية أنظمة أو التنقيب على الغاز أو ملاحقة إرهابيين. ورغم ذلك لا تعرف المبدأ الذي تفرق به الولايات المتحدة ودول عدة بين التمدد الأردوغاني والتمدد الخامنئي في العالم.
ثمة قراءة أمريكية غير مفهومة للحلم التركي مقارنة بالإيراني. في سوريا مثلاً تؤيد واشنطن العدوان التركي على مناطق الشمال، بينما ترفض الوجود الإيراني في أي بقعة من البلاد. كلاهما يبحث عن مصالحه، وكلاهما يحرك جماعات تصنفها أمريكا بالإرهابية، ولكنه حلال لتركيا وحرام على إيران كما يقولون.
قد يعتبر البعض سوريا حالة خاصة، والاختلاف فيها بين الاحتلال التركي والإيراني بالنسبة لواشنطن يكمن في العداء لإسرائيل. لم تعش المنطقة في تاريخها الحديث كذبة أكبر من "محور المقاومة". وما يحدث في العراق ولبنان، وقبلهما سوريا، يكشف حقيقة أن إيران قد احتلت دولاً عربية ولم تحارب إسرائيل.
ما تبرر إيران وجودها به في اليمن تبرر تركيا وجودها به في ليبيا. وما تحاول طهران زراعته في نيجيريا تحاول أنقرة غرسه في دول أفريقية أخرى. أما الاعتداءات التي تمارسها إيران على الملاحة الدولية في مياه الخليج، ترتكب تركيا مثلها في المتوسط بحجة التنقيب عن الغاز. فلماذا يحق لتركيا ما لا يحق لغيرها؟
ربما تكون الحجة الأمريكية هي انتماء تركيا لحلف الناتو. ولكن هذه الحجة بطلت منذ أن نصبت أنقرة صواريخ روسية على الحدود الجنوبية للحلف. أما المساعدة التركية في محاربة الإرهاب، فيدرك الأمريكيون قبل غيرهم كيف يُعِّرفُ رجب طيب أردوغان الإرهاب، وماذا جنى من محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
وكما تتدخل إيران في الدول عبر دعم أنظمة أو مليشيات وتجمعات دينية تدين بالولاء لولاية الفقيه، تدعم أنقرة مليشيات وأنظمة وتجمعات دينية تدين بالولاء لمرشد الإخوان. الفارق أن طهران أكثر وفاء من أنقرة لأذرعها في الخارج، ولنا في المعارضة السورية خير دليل على إخلاص أردوغان، الذي باع واشترى بفصائل هذه المعارضة وقادتها مراراً وتكراراً من أجل ترتيب علاقاته مع الروس.
ولا يختلف الابتزاز الإيراني للعالم عن نظيره التركي. الإيرانيون يتخلون تدريجيا عن اتفاقهم النووي مع الغرب طمعا في مواجهة العقوبات الأمريكية. والأتراك يتخلون بين الحين والآخر عن اتفاقهم مع الأوروبيين بشأن اللاجئين طمعا في المال. وبعد العدوان التركي على شمال سوريا باتت أنقرة تبتز العالم باللاجئين والدواعش.
حتى في أوضاعه الداخلية لا يختلف الحلم العثماني عن الفارسي. فكلا النظامين الإيراني والتركي يعيش سلسلة لا تنتهي من الأزمات الداخلية. وكلاهما يتغذى على نظرية المؤامرة الخارجية من أجل البقاء، ويمارس القمع ضد المعارضين الذين يتهمهم دائماً بالتخابر والتواطؤ مع "العدو" لقلب النظام في الداخل.
المعارضة الإيرانية مصنفة على قوائم إرهاب خامنئي، والمعارضة التركية مدرجة على قوائم إرهاب أردوغان. في الدولتين كل أجنبي يدخل البلاد لأي غرض كان هو جاسوس حتى يثبت العكس. ومثلما يطارد الحرس الثوري عناصر المعارضة الإيرانية في الخارج تلاحق الاستخبارات التركية معارضة أردوغان حول العالم.
جميع المتشابهات والقواسم المشتركة بين الحلمين الإيراني والتركي يدركها الأوروبيون والأمريكيون جيدا. ربما لا يقلق الحلم العثماني واشنطن في الفترة الراهنة، ولكن بروكسل تراه أخطر من الحلم الإيراني. فأردوغان ينافس الأوروبيين على مصالحهم ويتحالف مع خصومهم، وفي ذات القوة يضرب بسيفهم من خلال عضويته في حلف شمال الأطلسي. ليس هذا فقط وإنما يبتزهم كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
المشكلة الأكبر بالنسبة للأوروبيين في التعامل مع الحلم العثماني حالياً هي الدعم الذي يتلقاه الرئيس التركي من نظيره الأمريكي دون مقابل واضح لهم. يمارس ترامب في دعمه لأردوغان بلطجة سياسية واقتصادية وعسكرية أدخلت حلف الناتو في موت دماغي، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
خلال لقائه ترامب في لندن مؤخراً، قال ماكرون إن الناتو يحتاج إلى تحديث قائمة أعدائه. وعند مقارنة تحفظات ماكرون على استمرار إدراج موسكو في القائمة، مقابل جملة اعتراضات على سلوك أنقرة، تشترك معه فيها برلين وعواصم أوروبية أخرى، يتضح حجم الهوة القائمة بين الأوروبيين وتركيا الشريكة في الحلف.
تتكشف الصورة أكثر عند مقارنة الهدوء الذي يتحلى به الأوروبيون في التعامل مع إيران، مع التوتر الذي يرافق سلوكهم وتصريحاتهم إزاء تركيا. باختصار، كل تضييق تمارسه بروكسل على طهران هو استجابة لضغوط أمريكية، وكل تضييق تمارسه على أنقرة هو قناعة من الأوروبيين بأن تركيا أردوغان باتت عبئاً عليهم.
ربما يتباين الأوربيون والأمريكيون اليوم في المقارنة بين الحلمين العثماني والفارسي، ولكن ذلك قد لا يستمر طويلاً. الولايات المتحدة هي من أطلق يد طهران في المنطقة عندما كان الأوروبيون لا يتعاملون معها. واليوم يطلق ترامب يد تركيا في حلف الناتو رغم اعتراض الأوروبيين. معادلات هذه الدول تتغير تبعاً للمصالح، وصديق اليوم هو عدو الغد. أما بالنسبة للمنطقة العربية فلا تنطوي المقارنة بين الحلمين على أية فائدة. لن يلتقي أي منهما مع مصالح دول المنطقة. ومن يظن نفسه جزءاً منهما اليوم، سيكتشف خطأ حساباته آجلاً أو عاجلاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة