تمرّ الأمم في تاريخها بخلافاتٍ سياسية قد تشتدّ في بعض المراحل وتخفّ في أخرى، لكن مهما بلغت حدّتها، تظلّ قابلة للحلّ بالحوار والإرادة السياسية.
غير أن ما يمرّ به القادة وينتهون منه بقرار، يبقى في نفوس الشعوب طويلًا كأثرٍ لا يزول بسهولة. فالأزمات لا تترك ندوبًا في السياسة بقدر ما تتركها في الوعي الجمعي.
القرارات تُصلح المواقف… لا النفوس
المصالحة بين الدول تُعيد العلاقات إلى طبيعتها الرسمية، لكنها لا تضمن أن الشعوب تجاوزت ما حدث فعلاً. فالوجدان الشعبي يتكوّن أثناء الأزمات من روايات ومشاعر يصعب محوها، خصوصًا حين تكون قد شُحنت بخطاباتٍ عاطفية أو إعلامية مكثفة. وهكذا، تستمر الأزمة في الذاكرة حتى بعد زوالها سياسيًا، فتتحول من خلافٍ سياسي إلى حالةٍ نفسية جماعية غير مُعلنة، تظلّ قابلة للعودة في أي لحظة.
الجرح الصامت في الذاكرة
قد تظن الشعوب أنها تجاوزت الأزمات السياسية، لكن الحقيقة أن هناك جروحًا صامتة مدهونة في الذاكرة تنتظر فقط لحظة إثارة أو حدثًا رمزيًا لتعود إلى السطح. هذه الجروح لا تُرى، لكنها حاضرة في الوعي الجمعي، تُحرّك المواقف وتغذّي الانفعالات. الخطر هنا أن هذه الجروح تتحول إلى وقودٍ عاطفي لأي تصعيدٍ قادم، وتُبقي المجتمعات في حالة استعداد نفسي للتوتر حتى دون سبب مباشر. لذلك، فإن التعافي الحقيقي لا يكون بزوال الأزمة، بل بمعالجة أثرها في النفوس، عبر خطابٍ إنساني وثقافي يعلّم الناس كيف يطوون الألم دون إنكارٍ له.
الإعلام بين التهدئة والتحريض
الإعلام هو المرآة التي تعكس وعي الشعوب، لكنه أحيانًا يتحول إلى أداةٍ لتوجيهها. وحين يغيب عنه الانضباط الأخلاقي، يصبح جزءًا من الأزمة لا وسيلةً لحلّها. فبدل أن يُطفئ النيران، يُغذيها بخطابات تعبئة وانفعال. وفي المقابل، يمكن للإعلام الواعي أن يكون جسر عبور إلى مرحلة النضج، من خلال رواياتٍ مسؤولة تُعيد الثقة وتُبرز القواسم المشتركة بدلًا من تضخيم الفوارق. إن المجتمعات بعد الأزمات تحتاج إلى إعلامٍ يُعالج النفوس لا يُحرّضها، ويصنع الوعي لا الضجيج.
استغلال الجرح النفسي وأجندة الخارج
في عالمٍ تتقاطع فيه المصالح وتتنافس فيه القوى الناعمة، يصبح الانقسام النفسي بين الشعوب مادةً جاهزة للاستغلال الخارجي. فالإعلام المعادي، ومن خلفه أجهزة ومنصات، يدرك أن زعزعة الثقة بين الشعوب الخليجية أو العربية هي المدخل الأسهل لإضعاف الموقف الإقليمي العام. ومن هنا يتحول الجرح الداخلي إلى ورقة ضغطٍ خارجية تُستخدم كلما اقتضت المصالح أو التوازنات. إن محاولات تغذية الانقسام عبر الدعاية أو الأخبار الموجّهة ليست مجرد نشاطٍ إعلامي، بل استراتيجية تستهدف تفكيك البنية الاجتماعية للأمة.
وعي الشعوب بوجود هذا النوع من التلاعب هو الخطوة الأولى لحماية الذات من إعادة التوظيف في صراعاتٍ لا تخدمها. وعلى المجتمعات الواعية أن تُدرك أن كل انفعالٍ غير محسوب، وكل خصومة تُستثار، هي سلاح يُسلَّم طواعية لأطرافٍ لا تريد لها الاستقرار. فالأمن الفكري اليوم لا يقلّ أهمية عن الأمن السياسي، والوعي الجمعي هو خط الدفاع الأول ضد الاستغلال الخارجي.
إعادة تأهيل الوعي… مسؤوليته مشتركة
إعادة تأهيل الفكر الجمعي بعد الأزمات لا يمكن أن تُترك لعفوية الزمن أو لحسن نية الأفراد. إنها مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، بين المؤسسات الرسمية والضمير الثقافي للأمة. فالحكومات التي تدرك أن الأمن لا يُقاس فقط بالحدود والسلاح، بل أيضًا بسلامة الوعي في عقول مواطنيها، تكون أقدر على بناء استقرارٍ حقيقي طويل الأمد. الدولة بعد الأزمات مطالَبة بإعادة تنشيط أدواتها الثقافية والإعلامية والتعليمية، لا لفرض رأي، بل لتنظيف الذاكرة الجمعية من شوائب المرحلة السابقة وتوجيهها نحو مستقبلٍ أكثر نضجًا. وفي الوقت نفسه، يحتاج المجتمع إلى تبنّي قيم التفكير النقدي، والانفتاح، والتسامح، حتى لا تبقى ذاكرته أسيرة الماضي. هكذا يتحقق التوازن بين الدور المؤسسي والجهد الشعبي، فيتحول الوعي من شعارٍ إلى درعٍ يحمي الوجدان من الاستغلال والتكرار.
المصالحة تبدأ من الوجدان وتنتهي بالوعي
إن الاستقرار السياسي لا يكتمل إلا باستقرار النفوس. فحين تتصالح الذاكرة مع الماضي، تُصبح السياسة أداة بناء لا ساحة صراع. الأزمات لا تُغلق بالوثائق فقط، بل تُغلق حين يشفى الجرح في الذاكرة، ويُستبدل الخوف بالفهم، والانقسام بالثقة. وحين تتصالح الدول، ينبغي أن تتصالح معها الشعوب — لا بالشعارات، بل بالوعي، لأن تجاوز الأزمات هو الاختبار الحقيقي لوعي الشعوب. ومن هنا، فإن على الحكومات أن تعي أن بناء الوعي الجمعي ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة أمنية، وعلى الشعوب أن تدرك أن تجاوز الماضي لا يعني نسيانه، بل فهمه وتعلّم دروسه. فالوعي هو السدّ الذي يمنع تكرار الأزمات، وهو الجسر الذي يربط بين السياسة والوجدان في طريقٍ واحد نحو مستقبلٍ أكثر نضجًا وثقة واستقرارًا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة