تؤكد وقائع التاريخ المصري منذ تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928، أن خطابها مغلق على الذات
تؤكد وقائع التاريخ المصري منذ تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928، أن خطابها مغلق على الذات، يكرر منطلقات وأفكار الجماعة وينظر إلى القوى السياسية والجماعات الإسلاموية الأخرى بارتياب. وبالتالي، لم تهتم الجماعة طوال تاريخها بتكوين جبهات أو ائتلافات للعمل المشترك مع «الأغيار». قد تتعاون جزئياً وفي أحداث محددة، ثم تسارع بإنهاء هذا التعاون والانقلاب عليه في شكل براغماتي. حدث ذلك غير مرة في السنوات الأخيرة، ففي أثناء انتفاضة كانون الثاني (يناير) 2011 تحالفت الجماعة مع القوى المدنية ضد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم انقلبت عليها لتقيم علاقات تعاون غير معلن مع الجيش، ثم انقلبت عليه، واقتربت من بعض القوى المدنية للحصول على تأييدها في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة التي جاءت بمحمد مرسي، ثم ابتعدت عنها، وانفردت بحكم مصر.
بعد إطاحة الجماعة من السلطة والمجال العام في مصر في تموز (يوليو) 2013، دخلت في مواجهات مع الحكم الجديد انتهت بالفشل، فلم تنجح التظاهرات السلمية والعمليات الإرهابية التي تورَّط فيها بعض عناصر الجماعة في تغيير المعادلات السياسية على الأرض أو فتح الطريق أمام صفقة أو تسوية ما مع الحكومة، كما لم تكسب الجماعة تعاطف الرأي العام، بل على العكس ترفض غالبية المصريين عودتها إلى العمل العام.
ويبدو أن فشل «الإخوان» في مواجهة الحكم الجديد والشارع، إضافة إلى غياب معظم قياداتها داخل السجون أو في المنافي، أدى إلى نشوب صراعات وانقسامات داخلية تهدد وحدة الجماعة ووجودها، وربما مستقبلها، لذلك سعى «الإخوان» إلى القفز على مشاكلهم الداخلية بإقحام ما تبقى من الجماعة في مواجهات سياسية ضد النظام الجديد، وإلى محاولة الاقتراب من بعض القوى المدنية المعارضة، وطرح صيغ للتعاون الجبهوي وتشكيل ائتلافات تدَّعي الثورية. وهي ممارسات –كما سبقت الإشارة- ليست في منهج «الإخوان» أو رؤيتهم للآخر، لكن إكراهات السياسة فرضت عليهم هذا التوجه البراغماتي. في هذا السياق، دعا «الإخوان» إلى «ثورة الغلابة» في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وناشدوا ما تبقى من حركتي «6 أبريل» و «الاشتراكيين الثوريين» الانضمام إلى هذه التظاهرات التي ستتحرك كما يدعون من كل مدن وشوارع مصر رفضاً لموجة الغلاء وتردي الأوضاع المعيشية. لكن الدعوة جاءت «إخوانية» شكلاً وموضوعاً، ما أضعف من تأثيرها في الشارع وبين القوى السياسية. التظاهر العام ضد الغلاء دعوة حق يراد بها باطل، لأسباب عدة أهمها: أولاً: لم يدع «الإخوان» لتظاهرات ضد الغلاء أو بيع أصول الدولة (الخصخصة) أثناء حكم مبارك، ولم يسجل التاريخ أن الجماعة قادت تظاهرات ضد الغلاء أو لتحقيق مكاسب اجتماعية لصالح الفقراء. ثانياً: رفضت الأحزاب والحركات المدنية -بما فيها 6 أبريل- دعوة «الإخوان» للتظاهر، على رغم عدم رضاها عن موجة الغلاء والتعويم المنتظر للجنيه وبعض سياسات الحكومة. والمدهش أن «الإخوان» يصرون على مواصلة دعوتهم إلى التظاهر وحشد المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكتابة شعارات على بعض الأوراق المالية التي يتداولها الناس. ويمكن القول، حتى اليوم إن أصداء الدعوة تنحصر في أوساط «الإخوان» والمتعاطفين معهم. ثالثاً: أن الثورة في الظروف الصعبة التي تمر بها مصر لن تؤدي إلى الاستقرار أو الإصلاح، كما أن اختيار التاريخ ورمزيته يؤكد انغلاق خطاب «الإخوان» على الذات وأن الثأر من الحكم الجديد وربما المجتمع هو ما يحرك الدعوة إلى التظاهر، فالجمعة 11/11 تيمة أيقونية، يسهل تداولها كرمز لاعتصام «رابعة العدوية» وما جرى فيه، والمعنى أن «الإخوان» في دعوتهم القوى الأخرى أو المواطنين العاديين للتظاهر ضد الغلاء يسحبون الجميع على أرضية خطابهم المغلق على الذات والذي لا يرى في هذه المرحلة سوى الثأر، لا الإصلاح أو البناء. فمن المؤكد أن «الإخوان» لا يملكون رؤية لإصلاح أوضاع مصر الصعبة والتي كانوا من المتسببين فيها، وبالتالي فإن أي تظاهرات واسعة تهدف إلى الثورة ستؤدي إلى فوضى عارمة، لأنها ستدخل في الغالب في صدامات مع الشرطة والجيش. رابعاً: أن وقوع صدامات دموية بين المتظاهرين والشرطة والجيش هو أخطر ما يراهن عليه «الإخوان» ويسعون إلى تحقيقه بأي وسيلة، لأن الجيش في انتفاضة 2011 لم يدخل في صدام مع المتظاهرين، بينما فرضت عليه الظروف في السنوات الثلاث الأخيرة لعب دور كبير في الحفاظ على الأمن الداخلي وتنفيذ مشروعات التنمية، إضافة إلى أدواره التقليدية في الحفاظ على الأمن القومي. لذلك لا بد من إدراك خطورة سيناريو الصدام مع المتظاهرين ومحاولة تجنبه أو احتوائه، وذلك في حال نجاح دعوة «الإخوان» في شكل جزئي واستجابة قطاعات من المصريين لها. خامساً: يحاول «الإخوان» استنساخ انتفاضة 25 يناير 2011، وهو نوع من التفكير بالتمني واستخدام خطاب قديم ومغلق على الذات «الإخوانية» لتحقيق النتائج ذاتها، لأن التاريخ لا يكرر نفسه إلا كمأساة، ولا تمكن مقارنة الأوضاع السياسية والاقتصادية في أواخر عصر مبارك بالأوضاع الحالية، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي التي استخدمها شباب ثورة يناير ويراهن عليها «الإخوان» في دعوتهم إلى التظاهر، صارت أدوات قديمة يمتلكها «الإخوان» والحكومة والمؤيدون لها، وهم كثيرون.
ورغم ارتفاع الأسعار وشكوى المصريين، فالأرجح فشل الدعوة لـ «ثورة الغلابة»؛ نظراً إلى طابعها «الإخواني»، ولأن معظم المواطنين يخشون تكرار فعل الثورة لأسباب أمنية واقتصادية، علاوة على مخاوفهم من الدخول في فوضى وانهيار مؤسسات الدولة، كما حدث في سورية واليمن وليبيا. ومع ذلك، وحتى يفوّت الحكم مجالات الحركة أو حتى المزايدات الكلامية لـ «الإخوان»، من الضروري إجراء مراجعات لبعض السياسات المتبعة في مجال حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وتغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، والأهم امتلاك رؤية اقتصادية وسياسية واضحة، مع التدرج في تنفيذ توصيات صندوق النقد، فهناك تقارير حكومية وأمنية رصدت مظاهر قلق مكتوم في الشارع ومخاوف من موجة غلاء وأزمات قادمة في حال تنفيذ توصيات صندوق النقد، وفي مقدمها تعويم الجنيه، الذي خسر نصف قيمته مقابل الدولار خلال العامين الأخيرين. كما أن مراعاة الجوانب الاجتماعية في برنامج الإصلاح الاقتصادي، واستجابة بعض مطالب المعارضة المدنية، مثل توسيع المجال العام واحترام الدستور وتفعيله، وإصلاح أجهزة الدولة من شأنه: أولاً: أن يدعم الجبهة المدنية الرافضة لفكر «الإخوان» والتي كانت النواة الصلبة لتحالف 30 يونيو الذي أطاح حكمهم. ثانياً: أن يقلص من فرص نجاح دعوات «الإخوان» للحشد والتعبئة ضد الحكومة. ويبقى تحذير أخير يتعلق بتجنب المبالغات الأمنية والإعلامية، سواء بالتهوين من تظاهرات 11/11 أو التهويل في اتخاذ إجراءات أمنية استباقية، وكذلك المبالغة في تحذير المواطنين من مخاطر التظاهر، ما قد يؤدي إلى نتائج نفسية وسياسية غير متوقعة، مثل التعاطف مع التظاهرات أو الخوف الشديد منها، والذي يعطل مظاهر الحياة ويفرغ الشوارع من الناس. ومثل هذه الآثار قد تعني جزئياً نجاح دعوة «الإخوان» في إرباك استقرار المجتمع والحياة العادية للمواطنين.
من المهم تجنب سيناريو تعطيل الحياة العامة باتخاذ إجراءات أمنية مبالغ فيها، والذي حدث للأسف في مناسبات عدة سابقة كان «الإخوان» هدَّدوا فيها بتنظيم تظاهرات مليونية –اتضح أنها وهمية– مثل ذكرى إطاحة مرسي، أو ذكرى فض اعتصام «رابعة العدوية».
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة