يفترض بعض المسؤولين الفلسطينيين أن توقيع اتفاقيات بين إسرائيل والدول العربية يحد من قدرتهم على التفاوض، أو يؤدي الى إضعاف موقفهم، ولكن هذا غير صحيح، إلى درجة تبلغ حد الكذب على النفس، وهناك أسباب جلية لذلك.
أولا، لا توجد مفاوضات أصلا. لقد أدى الشلل القائم منذ أكثر من عشرة أعوام إلى تعطل قدرة الطرفين على مواصلة التفاوض. الإسرائيليون انتهزوا الفرصة لتوسيع المستوطنات وزيادة أعمال ضم الأراضي، بينما بقيت السلطة الفلسطينية عاجزة عن البحث عن بدائل لدفع إسرائيل إلى العودة إلى طاولة التفاوض. وظلت تكتفي بالشكوى وبخيارات فقيرة، من قبيل اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، دون طائل. والواقع يقول إن هذا الوضع كان من الممكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، من دون أن يوفر للشعب الفلسطيني أي فرصة لاسترداد حقوقه. بكلام آخر: فإن الفشل في العثور على بدائل صالحة للتأثير المباشر، كان يعني أن السلطة الفلسطينية هي التي تضيّع حقوق شعبها، عمداً لا جهلا. فعندما لا تعثر على خيارات بديلة، كما لا تضع استراتيجيات متفق عليها، وعندما تفترض أن ما "لا تفعله" هو الخيار الوحيد، فكأنك تخطط لنوع من التدمير الذاتي لحقوقك الوطنية. أكثر من ذلك، فعندما يدوم هذا الوضع لأكثر من عشر سنوات، فلا تستغرب أن شعبك نفسه سوف يشعر أنك تحشره في زاوية ميتة، وتقتل دوافع البقاء فيه.
أفهل يفهم أي مسؤول فلسطيني، ما معنى أن يبحث مواطنوهم الشباب عن سبل للهجرة؟ للهرب من الواقع الذي وجدوا أنفسهم فيه؟ للمأساة التي حولتهم من حاملي حجارة إلى حاملي جوازات سفر مزورة؟ أو أن يركبوا قوارب الموت بحثا عن لجوء؟ أهناك خزي أكثر من ذلك؟
ثانيا، الانقسام الفلسطيني مسؤولية الفلسطينيين أنفسهم. فإذا كان هذا الانقسام يؤدي إلى إضعاف موقفهم التفاوضي، فهذه مشكلة كان يتعين أن يقوموا بحلها، بدلا من أن يتركوها معلقة للزمن. وهي ما تزال معلقة حتى الآن، برغم سلسلة طويلة من الاجتماعات والوساطات. وفي الواقع، فإن قيادات لا تدرك المخاطر والأضرار الناجمة عن الانقسام إذا كانت مصيبة، فإن إلقاء كل طرف اللوم على الطرف الآخر، مصيبة أعظم، لأنه ليس ذريعة كافية قياسا بحجم المخاطر.
ثالثا، كل الدول العربية التي اختارت الأخذ بمسار السلام مع إسرائيل لم تتنازل عن شعرة من الحقوق الفلسطينية، وظلت تؤكد تمسكها بمرجعات السلام التي قبلت بها السلطة الفلسطينية. وكان موقفها ذلك بمثابة تأكيد معلن على أن السلام الشامل لن يقوم إلا على أساس تلك المرجعيات. وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن تحريك المياه التي تركتها القيادات الفلسطينية تركد، كان مفيدا، لتكون بمثابة قوة دفع لاستئناف المفاوضات. شيء من الحكمة يمكنه أن يقول: عندما تعجز، فليس من المنطق أن تفرضه على غيرك.
رابعا، الإسرائيليون يعرفون الآن أنه يتعين أن يقدموا تنازلات، ولقد قدموا بالفعل جانبا منها عندما تخلوا عن ضم أراضي الضفة الغربية وغور الأردن. هذا وحده كان كافيا لإنقاذ حل الدولتين الذي تتمسك به السلطة الفلسطينية، وتعتبره المدخل الصحيح لإنهاء النزاع. فمن دون وقف مسلسل الضم، ما كانت لتبقى أي فرصة لهذا الحل.
خامسا، السلام إغراء هائل، ومدخل حقيقي لاستكشاف فرصه وإمكانياته. وهذا يدعم بقوة الفكرة من وراء مبدأ "الأرض مقابل السلام". عندما يتعرف الإسرائيليون على ما يمكنهم أن يحققوه من فرص السلام، فإنهم سوف يكونون مستعدين أكثر لتقديم ما يتعين تقديمه لتحقيق السلام الشامل. لقد سبق لإسرائيل أن تخلت عن أراض محتلة واسعة من أجل السلام مع مصر، والأردن، ومع الفلسطينيين أنفسهم. وما يزال بوسعهم أن يقدموا أكثر.
سادسا، السلام مع إسرائيل طريق من اتجاهين بالنسبة للدول العربية. بمعنى أنه ليس خدمة من طرف واحد. وعندما توضع المكاسب المتبادلة في ميزان العقل، بل في ميزان الحساب، سيمكن للعاقل أن يدرك أن الميزان يميل إلينا أكثر مما يميل لإسرائيل. وفي النهاية فإن إسرائيل دولة تنظر إلى مجرد الاعتراف بحقها في الوجود على أنه مكسب كبير، وهو كذلك بالفعل، وبينما تعرف أنها يتعين أن تقدم شيئا كبيرا في مقابل ذلك، فنحن نعرف أيضا أن وجودها كدولة أصبح شيئا خارج التنازع من وجهة النظر الفلسطينية نفسها.
حجر الزاوية في هذا كله هو أن السلام الشامل ما يزال يتعين أن يتحقق، وأن المفاوضات يتعين أن تُستأنف، ولو قررت الدول العربية أن تترك الأمر لعجز المسؤولين الفلسطينيين وانقساماتهم ومخازيهم، فإن الضرر سيكون أعم وأشمل عليهم وعلى شعبهم أولا.
عندما اختار الفلسطينيون طريق السلام، واقتنع الإسرائيليون به، ووضعوا أسسا مشتركة له، فإن كل دفعة في هذا الاتجاه هي مصدر قوة لا ضعف.
أما الكذب على النفس، فإنه آخر ما ينفع أي أحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة