مازالت إيران وتركيا وقطر وعصابات الحوثي في اليمن يرفعون شعار فلسطين لتبرير ما ترتكبه من جرائم في حق شعبها
في صيف 1996 قضيت قرابة الشهر معتكفاً في مكتبة السياسي والمفكر الفلسطيني المرحوم خالد الحسن (أبو السعيد)، وخرجت بدراسة عنوانها " فلسفة العودة: فلسطين والمشروع النهضوي العربي؛ قراءة في أفكار خالد الحسن"، نشرتها مجلة دراسات فلسطينية التي تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في أبريل/ نيسان 2000، وحذفت هيئة التحرير من العنوان "فلسفة العودة".
فلسطين بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه وجع تاريخي، وحلم ضائع، وفكرة مركزية تمحورت حولها كل محددات الهوية، ومقياس دقيق لمعنى الانتماء الوطني والقومي، وترنيمة سحرية تفتح القلوب، والعقول لكل من أراد الدخول، وكعبة سياسية تمتص خطايا الدول والحكام، ويتمسح بها كل من أراد الحصول على لقب الزعامة والقيادة التاريخية.
لكن بعد أن اشتعل الرأس شيبا لم يعد هناك مجال لكل تلك الرومانسيات الجميلة الجذابة المرهفة، لأن الحقيقة مّرة بنفس طعمها في فم من حملوا مفاتيح بيوتهم، وذهبوا بها إلى القبور مع أحلامهم، لذلك ينبغي أن نواجه هذه الحقيقة بكل مرارتها، وسوادها بدون مجاملة، أو خوف من اتهام ممن لازالوا يعيشون في رومانسية الحلم، أو يتاجرون به على قارعة الطريق.
التتبع التاريخي لنكبة فلسطين يخلص إلى نتيجة واحدة لا تقبل الدحض، ولا تحتمل النقاش؛ وهي أن العرب والفلسطينيين اعتادوا رفض المعطيات الواقعية المطروحة في كل مرحلة.
إن التتبع التاريخي لنكبة فلسطين يخلص إلى نتيجة واحدة لا تقبل الدحض، ولا تحتمل النقاش؛ وهي أن العرب والفلسطينيين اعتادوا رفض المعطيات الواقعية المطروحة في كل مرحلة، والحلول الممكنة، ويطالبون بالعودة إلى ما رفضوه في المرحلة السابقة، ثم تأتي المرحلة التالية فيرفضوا ما هو ممكن ومتاح، ويطالبون بالعودة إلى ما رفضوه بالأمس، وهكذا دواليك بدون توقف.
وهنا يثور السؤال المنطقي لماذا حدث هذا مع اختلاف الأجيال، والحكام والمسؤولين والدول والزعامات؟ ... والإجابة قد تكون في النقاط الآتية:
أولا: إن السياسة في عالمنا العربي تغلب عليها الشعارات الشعبوية، والخطاب المغرق في المثالية، وتخلط، بصورة عجيبة، بين أمجاد التاريخ وانحطاط الواقع، بحيث تذوب الفواصل بينهما، ويصبح التاريخ واقعاً معاشا رغم عدم وجود الأمجاد، أو وجود الإمكانيات التي تحقق الأمجاد، وتغلب فيها الأحلام والطموحات على القدرات والإمكانيات، بحيث تكون الطموحات أكثر مئات المرات عن الإمكانيات، وباختصار شديد فإن السياسة في عالمنا تدخل في مجال الأدب الرومانسي، أو الفن السيرالي أكثر من كونها "فن الممكن" الذي يعظِّم الإمكانيات لتحقيق المصالح.
ثانياً: إن قضية فلسطين كانت ومازالت هي"الجوكر" الذي يكسب صاحبه اللعبة، ويحقق له الفوز، والنصر المؤزر على جميع الخصوم الداخليين والخارجيين، وهذه الحالة مكنت كل من أراد تحقيق مصالحه الضيقة أن يوظف قضية فلسطين.
وفعل ذلك نظام البعث في العراق، وحاول أن يغطي على كارثة احتلال الكويت بإطلاق عدة صواريخ على فلسطين المحتلة، ومازالت تفعل ذلك إيران وتركيا وقطر وبصورة أكثر انتهازية، بل إن عصابات الحوثي في اليمن ترفع شعار فلسطين لتبرير ما ترتكبه من جرائم في حق شعبها.
والاستثناء الوحيد في ذلك هو الدولة المصرية منذ عهد جمال عبد الناصر رحمة الله عليه إلى اليوم؛ فلم تكن قضية فلسطين يوما من الأيام وسيلة أو أداة لتحقيق أهداف أخرى، فقد أثبتت الوقائع التاريخية أن مصر خدمت قضية فلسطين بكل ما يمليه عليها ضميرها القومي، ولم تستخدم قضية فلسطين لتحقيق مصالح ضيقة، ولعل الموقف من حركة حماس طوال السنوات السبع الماضية يؤكد ذلك، حيث حافظت مصر على العلاقة مع قطاع غزة ضمن رؤيتها للمصلحة الفلسطينية العليا على الرغم من انخراط حركة حماس وقياداتها في العمليات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي المصري في سيناء.
ثالثا: عندما يتعلق الأمر بفلسطين تسيطر الحماقة على العقل السياسي العربي، والحماقة كما تُعَرِفها لغتنا العربية هي: اتباع وسائل رديئة وسيئة لتحقيق أهدافا نبيلة، وللأسف الشديد لا يحدث ذلك بنفس الدرجة، وبنفس الاستمرارية إلا في قضية فلسطين.
فسياسة مقاطعة إسرائيل مثلاً وسيلة قديمة كانت مفيدة، وناجحة بدرجة معقولة حين كان للعرب حضور دولي طاغ ومؤثر، وحين كانت إسرائيل ضعيفة، وحين كان العالم تتحكم فيه الوسائل التقليدية.
أما الآن وقد تبدل الحال، ولم يعد للعرب ذلك الحضور، ولم تعد عندهم تلك القوة، بل أن إسرائيل تفوقت عليهم جميعا علميا واقتصاديا وتكنولوجيا فقد أصبح سلاح المقاطعة موجه لإضعاف الفلسطينيين في الداخل في معركة جوهرها هو بقاء الإنسان الفلسطيني في أرضه، وتمسكه بها من خلال تمكينه اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا.
هذا كله ناهيك عما أحدثته الثورة الصناعية الرابعة من تحولت جعلت سلاح المقاطعة يفقد جوهر وجوده...لذلك كان ولابد من تطوير وسائل أخرى تحقق نفس الهدف، وهو عدم الاعتراف بشرعية المحتل بصورة فعالة.
رابعاً: التمسك بالشرعية القانونية، وتجاهل الفعالية السياسية والاقتصادية، فمنذ ثمانيات القرن الماضي وأستاذنا الدكتور عز الدين فودة رحمة الله عليه، أستاذ كرسي القانون الدولي بجامعة القاهرة يؤكد على ضرورة فهم الفارق الشديد بين الشرعية والفعالية، وأن الشرعية بدون فعالية لن تحقق شيئا في عالم السياسة.
وخلاصة القول إن النكبة الحقيقية هي طريقة التفكير التي جعلت نكبة فلسطين تستمر لثلاثة أرباع القرن، وسوف تستمر إلا إذا تم تجديد الفكر طبقا لمعطيات الواقع، ومن هذه المعطيات أن حل الدولتين لم يعد له مستقبل، وأن المستقبل سيكون للدولة الديمقراطية الواحدة التي سيعيد العامل الديموغرافي فيها الأرض إلى أصحابها في المستقبل المنظور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة