رغم الأثمان الفادحة غير المسبوقة، لا في منطقتنا ولا في العالم، التي يدفعها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومعه أشقاؤه في الضفة الغربية، منذ بدء العدوان الإسرائيلي الدموي قبل ستة أشهر.
إلا أن هذه التضحيات العظمى الحالية وما سبقها من تضحيات طوال قرن من الزمان سعياً وراء الاستقلال الفلسطيني، لن تؤتي ثمارها الإيجابية المتوقعة نحو هذا الاستقلال، سوى بتحركات ضرورية للغاية.
تلك التحركات يجب أن تتم داخل المعسكر الواسع للفصائل والمنظمات الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، بما يؤدي إلى "وحدة وطنية" فلسطينية حقيقية تكون الأساس الذي يقوم عليه الاعتراف الدولي المراد والمرتقب من المجتمع الدولي.
والفكرة الأساسية هنا هي أن تضحيات الشعب الفلسطيني وصموده البطولي طوال شهور العدوان الحالي وقرن الصراع كله، هو الذي جعل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يطرح مبادرته المبكرة المبتكرة في الأسابيع الأولى للعدوان، بنموذج جديد في التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي المفترض حول قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لا يقوم على تأجيل إعلانها حتى الانتهاء من التفاوض المباشر بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول "قضايا الحل النهائي"، واعتراف إسرائيل بها بعد التوصل لاتفاقات بين الطرفين حولها.
يقوم النموذج الجديد على الاعتراف الدولي الفوري بالدولة الفلسطينية المستقلة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وبعدها يتم التفاوض بينها وبين "دولة إسرائيل" حول "قضايا الحل النهائي"، كدولتين مستقلتين كاملتي الأهلية ومتساويتين في الحقوق والواجبات الدولية.
وقد لقي هذا النموذج المصري حتى اليوم قبولاً وتأييداً معلناً وغير مسبوق من الغالبية الساحقة من دول العالم، بما فيها الرئيسية منها المؤيدة تقليدياً لإسرائيل مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكي يمكن السير قدماً وسريعاً في تطبيق هذا النموذج بأولى خطواته، وهي الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، فإن الأمر يستلزم وبصورة عاجلة أن تتوافق مختلف الفصائل والمنظمات الفلسطينية ومعها السلطة الفلسطينية، على انخراطها جميعاً ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، الوعاء التنظيمي الجامع للكيانية الفلسطينية، والمعترف به فلسطينياً ودولياً.
وقد بدأ الأمر مع القمة العربية التي عقدت في الرباط عام 1974، والتي اعتبرت "منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، وهو ما جعل الجمعية العامة للأمم المتحدة تتخذ قرارها في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام بالاعتراف "بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ومنحها مقعد مراقب في الأمم المتحدة".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988، قام المجلس الوطني الفلسطيني بإعلان "دولة فلسطين" في دورته المنعقدة بالجزائر، وهو ما اتبعته الجمعية العامة بالاعتراف بهذا الاستقلال، وبعدها وفي عام 2019، اعترفت 138 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بدولة فلسطين كعضو مراقب بالمنظمة الدولية، وحتى العديد من الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين، فهي تعترف بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب الفلسطيني.
في ظل ما تقدم شرحه، فإن تطبيق النموذج المصري الجديد المتوافق عليه دولياً حالياً، يتطلب وفورياً تشكيل الركن الثالث المعروف في تكوين أي دولة، وهو الحكومة والممثل الرسمي لها. فالدولة الفلسطينية المستقلة كأي دولة أخرى هي حصيلة وجود شعب لها يقيم على إقليم هو أرضها وحكومة تمثلها.
والحال اليوم فيما يخص تكوين شعب "دولة فلسطين" وحدود إقليمها وعاصمتها ومواردها وثرواتها الطبيعية، هو أنه بوجود هذه الحكومة الممثلة لها، فسوف تكون كل القضايا السابقة والمعروفة باسم "قضايا الحل النهائي"، موضع تفاوض مباشر بينها وبين "دولة إسرائيل"، حتى يتم الانتهاء من حسمها، بمشاركة فعالة وكبيرة من المجتمع الدولي.
ودون وجود هذه الحكومة الموحدة الممثلة للشعب الفلسطيني، فلن تكون هناك إمكانية حقيقية لتطبيق النموذج المصري الجديد، وبالتالي لن يكون للاعتراف الدولي المنشود أي قيمة واقعية فيما يخص مستقبل الشعب الفلسطيني.
ولكن كيفية تحقيق تشكيل هذه الحكومة عبر وحدة فلسطينية حقيقية وجادة ودائمة، يستلزم سطوراً أخرى في مقالتنا المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة