تهويد القدس بين استيطان الأرض وتغيير الهُوية
تهويد مدينة القُدس العربية يتم بخُطواتٍ مُتدرجة ولكنها ثابتة لها هدفان؛ الأول إحداث تغيير ديموجرافي، والثاني تغيير هوية المدينة.
عادت مدينة القدُس العربية وما تتعرض له من ضغوط إلى دائرة الضوء في الأخبار والتعليقات، التي حملتها وكالات الأنباء العالمية وارتبط ذلك بعدة مناسبات، منها قيام الشُرطة الإسرائيلية بهدم مجموعة من المنازل بقرية سوق باهر في جنوب المدينة بدعوى مُخالفتها قواعد البناء في هذه المنطقة.
وهو الإجراء الذي انتقده عدد كبير من دول العالم وعقد مجلس الأمن جلسة لإصدار بيان بشأنه، وهو ما لم يتحقق بسبب الاعتراض الأمريكي.
ومنها التوترات التي تصاعدت في كُل من حي "الشيخ جراح" وحي "سلوان" في المدينة كرد فعل لسياسات الاستيطان اليهودي ومُحاولات تغيير الهُوية.
وأيضا تصريحات جيسون جرينبلانت، مبعوث الولايات المُتحدة إلى الشرق الأوسط، التي ذكر فيها أن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ليست هي العقبة الحقيقية في طريق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأن الأرض المُقامة عليها هذه المُستوطنات هي أراضٍ "مُتنازع عليها" بين الطرفين.
وهو تصريح يخالف بشكل واضح مُقررات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى بشأن الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد حرب 1967.
إن تهويد مدينة القُدس العربية التي أعلنت إسرائيل ضمها وإعلانها جُزءا من عاصمتها في عام 1980، يتم بخُطواتٍ مُتدرجة ولكنها ثابتة ومُتراكمة لها هدفان: الأول إحداث تغيير ديموجرافي بتسكين عائلات يهودية وطلاب المدارس الدينية فيها حتى يُصبح أغلبية السُكان في المدينة من اليهود.
والثاني تَغيير هُوية المدينة وإكسابها طابعا يهوديا من خلال استبدال أسماء الشوارع والأحياء العربية بأُخرى يهودية وإنشاء المتاحف والمزارات اليهودية. ويتم تنفيذ ذلك من خلال سياسة "النفس الطويل" التي تقوم على التهويد منزلا بمنزل وشارعا بشارع.
لقد أحاطت سلطات الاحتلال المدينة بسور يعزلها عن محيطها الفلسطيني ثم عملت على التغلغل بداخلها، ونركز على اثنين من أحياء مدينة القدس العربية وهُما حي الشيخ جراح وحي سلون.
فبالنسبة لحي الشيخ جراح، الذي اشتق اسمه من لقب طبيب صلاح الدين الأيوبي، فهو من أحياء المدينة الراقية، ويزداد فيه ثمن العقارات والإيجارات مُقارنة بالأحياء الأخرى.
وتسكُن فيه عائلات فلسطينية قديمة كالحُسيني والخالدي ونسيبة وفيه منزل مفتي القدس الشهير الشيخ أمين الحسيني، كما يوجد فيه عدد من قنصليات الدول الأوروبية مثل السويد، وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا ومقر لجنة الصليب الأحمر ويقع فيه مسرح "الحكواتي" ذائع الصيت.
ويُقدر عدد سكانه بنحو 3 آلاف نسمة وتَعود أهميته إلى أنه يمثل حلقة الوصل بين البلدة القديمة والأحياء الشمالية الشرقية.
شهد الحي سلسلة من إجراءات مُصادرة المساكن والأراضي؛ ففي 2010 تمت مصادرة قطعة أرض لإنشاء موقف للسيارات، وتم الاستيلاء على أراضي ومباني الفلسطينيين في الحي من خلال التلاعب في حُجج الأوقاف أو "الحِكر" كما كان يسمى في فترة الإدارة العثمانية لفلسطين في القرن الـ١٩ حتى الحَرب العالمية الأولى.
وعلى سبيل المثال؛ ففي حالة "الحكر" الذي أوقفه "عبدربه بن خليل بن إبراهيم" لقطعة أرض لصالح يوسف بن رحماميم لمُدة 90 سنة، كان هذا اليهودي قد جاء إلى فلسطين هاربا من الاضطهاد الأوروبي لليهود عام 1881 فساعده الفلسطيني ليضمن له حياة كريمة.
ومع أن حُجة الوقف لمدة مُحددة تعود بعدها ملكية الأرض والمنزل لورثة عبدربه؛ فإن ذلك لم يحدث وتحول "الحكر" إلى "بيع" وكَسب ورثة يوسف رحماميم القضية في المحكمة العُليا.
وعندما تتم السيطرة على موقعٍ فلسطيني فسُرعان ما تتغير الأسماء والرموز، فمحيط كرم المفتي ومغارة معو السعدي -أحد شيوخ الصوفية- تحول إلى مغارة وكنيس الصديق شمعون الذي أصبح مزارا يتردد عليه آلاف اليهود للصلاة.
وفي عام 2018، خُصص مبلغ مليون ونصف المليون شيكل من وزارة المالية لتطوير هذا المكان ودعم البؤر الاستيطانية فيه.
أما بخصوص حي سلوان، الذي اختلف المؤرخون حول أصل التسمية وعما إذا كانت تعود إلى الكلمة الآرامية "سيلون أو الكلمة السامية "سيلا" أو الكلمة العربية "السلو" وكُلها تحمل معاني الهدوء والراحة، فقد تكررت نفس السياسة والإجراءات، ولإعطاء الحي نكهة يهودية تقرر إنشاء متحف للتراث اليهودي ومدينة داود لتكونا مزارا ومقصدا سياحيا.
وفي عام 2014، تم إنشاء مركز سياحي بالحي في منطقة أرجة أمام أحد أبواب المسجد الأقصى وهو باب المغاربة.
وفي عام 2018، أقر البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، قانونا يسمح بإنشاء وحدات استيطانية جديدة في منطقة "الحديقة الوطنية" في سلون، وذلك من أجل توسيع مستوطنة "عير دافيد" الإسرائيلية، وخُصصت ميزانية 2 مليون شيكل من وزارة المالية لهذا الغرض.
وفي أبريل/نيسان ٢٠١٩، صدر قرار بمصادرة بعض الأراضي الفلسطينية بدعوى المنفعة العامة وإقامة عدد من المحميات الطبيعية والمتنزهات العامة.
وفي مطلع شهر يوليو/تموز الجاري تم تغيير أسماء ٥ شوارع لتحمل أسماء حاخامات يمنيين عاشوا في هذا الحي من سنوات بعيدة.
ولما كان اسم أي مكان يُشير إلى هويته، ويؤدي تغيير أسماء هذه الشوارع إلى إكسابها طابعا يهوديا وإلى اغتراب سُكانها العرب عنها؛ فالاسم هو أحد مؤشرات هوية المكان.
وفي كل من الشيخ جراح وسلوان، وكلاهما في محيط المسجد الأقصى، صَدرت قرارات حكومية بإعادة رسم حدود الأحياء لزيادة عدد اليهود فيها وتم الاستيلاء على منازل الفلسطينيين وهدمها.
ونشطت جمعيات إسرائيلية من أجل تغيير معالم المدينة البشرية والهوياتية ومن أشهرها جمعية "إلعاد" التي تأسست عام 1986، وإلعاد كلمة عبرية تعني "نحو مدينة داود" وهو اسمُ يعكس الاعتقاد الاسرائيلي بأن مملكة داود القديمة كانت في هذا المكان جنوب المسجد الأقصى.
واستخدمت الجمعية مختلف الأساليب القانونية وغير القانونية لتحقيق أهدافها، والتي تُساعدها الحكومة الإسرائيلية على ذلك. ومن مظاهر هذه المساعدة أنه في عام 2009 كلفت سُلطات بلدية مدينة القدس تلك الجمعية لإدارة جزء من حي سلوان لإقامة حديقة لحفظ التراث والآثار اليهودية وبهدف عزل الحي عن إطاره الفلسطيني.
وفي الاتجاه ذاته، تُدير هذه الجمعية "غابة السلام" التي تقع بين حي أبو طور "جنوب القدس" ومحيط مستوطنة "آرمون هانتسيف" شرق المدينة واستغلالها سياحيا.
واستخدمت الجمعيات الاستيطانية سلاح القانون لإخراج الفلسطينيين من المنازل والأراضي التي يعيشون فيها. وعلى سبيل المثال، تم توظيف القانون الخاص بالشقق والعقارات التي استأجرها فلسطينيون من مُلاك يهود قبل عام 1948، ورفع دعاوى نيابة عن ورثة المُلاك اليهود ضد ورثة المُستأجرين الفلسطينيين لإخلائهم منها.
كما استخدام قانون "أملاك الغائبين" للغرض نفسه؛ فبمقتضى هذا القانون تعين البلدية وصيا على أملاك الغائبين لإدارتها، فيقوم الوصي بالتواطؤ ضد الورثة الفلسطينيين وبيع تلك الأملاك لممثلي الجمعيات الاستيطانية مثلما حدث في واقعة الاستيلاء على أرض بحي الشيخ جراح في أغسطس عام 2018.
وعندما يصدرُ القرار بالمصادرة أو سحب الملكية فإنه سُرعان ما تقوم الشرطة بتنفيذه وإجبار السكان الفلسطينيين على إخلاء العقار وهدمه، ويعقبُ ذلِك إصدار ترخيص جديد يُمكن الجمعية الاستيطانية من البناء على الأرض.
وبدلا من المنزل الذي كانت تقيم فيه عائلتان أو 3 عائلات فلسطينية فإن الترخيص الجديد يكون ببناء برج سكني شاهق تسكنه عشرات العائلات اليهودية؛ ما يؤدي إلى ازدياد عدد اليهود على المساحة نفسها.
إن ما يحدث في مدينة القدس العربية هو صورة مُتكررة مما يحدثُ في مدينة الخليل وبعض أجزاء الضفة الغربية، وإن كان بشكل أكثر كثافة وإلحاحا وذلك بحكم خصوصية وضع القدس في المنظور الإسرائيلي.
وفي هذا الجهد الاستيطاني، تتضافر جهود الحكومة الإسرائيلية وسُلطات الاحتلال العسكرية ومجالس بلديات المدن والصندوق القومي اليهودي والجمعيات الاستيطانية ومنظمات التمويل الصهيونية في الداخل وعبر الحدود، والهدف الاستراتيجي هو خلق أمر واقع تكون فيه فكرة الدولتين وإقامة دولة فلسطينية أمرا مستحيل التنفيذ.
وختاما لا يمكن للجهد الفلسطيني مهما كان حجم الإصرار والمثابرة والعزم أن يقف بمفرده في مواجهة هذا الطوفان.