أهل العقل "هو ذلك العنوان الذي اخترته لأحدث مؤلفاتي التي صدرت مع بداية معرض القاهرة للكتاب في دورته الحادية والخمسين".
أهل العقل "هو ذلك العنوان الذي اخترته لأحدث مؤلفاتي التي صدرت مع بداية معرض القاهرة للكتاب في دورته الحادية والخمسين، عن الدار المصرية اللبنانية العريقة.
أهل العقل ليس مجرد عنوان لكتاب، بل هو تشريح حاد لواقع مليء بالتقيحات.
* "كان العالم يفكر بقدميه" مقولة أطلقها الراحل "مصطفى محمود" حين سمع عن ارتفاع أجور لاعبي كرة القدم، تلك مقولة تحمل مرارة السخرية من واقع مقلوب على رأسه. لأن التقدير لا بد أن يكون ملاصقاً للتفكير.
كثرت بعدها المقولات التي تؤكد المعنى، فكل جزء في جسد الإنسان له سعره وقيمته في حركة تسويق العالم، من يملك قدماً له قدره، ومن يملك صوتاً جميلاً له قدره، حتى الراقصة لها في واقعنا قدر وتقدير لكن للأسف من يملك رأس فهو معذب بها!
*هكذا جاء مشروع كتاب "أهل العقل" ثمرة لبرنامج تلفزيوني هو "منارات" الذي قدّم على شاشة قناة العربية ما بين 2015 و2019، أربعة أعوام أو يزيد قليلاً كان مسحاً جغرافياً وفكرياً لجغرافيا العقل العربي من موريتانيا إلى أفغانستان. متنقلاً بين فئات هؤلاء العلماء الذين اشتغلوا بالفكر والتفكر، وظفوا العقل لفهم متغيرات الواقع.
أذكر أنني لم أدخل إلى مشروع إعلامي إلا بناء على حاجة ملحة فرضها الواقع، تلك مشاريع إعلامية تزاوج بين الإعلام كمهنة والفكر كوسيلة وكمنهج.
بعد 2011 موجة الربيع الاولى تابعنا تساقط الثورات العربية في جب سحيق من الصفقات والخيانات، وتم التواطؤ على حراك شعوب، وأحلام جيل من شباب الأمة أزمتهم أنهم يوماً قرروا ألا يكونوا عبيداً تابعين.
ولما خرج د. علي عبدالرازق بمشروعه "الإسلام وأصول الحكم" ليؤكد أن الخلافة شكل يختاره الناس مثل الملك أو الأمير أو الرئيس، ولا علاقة لأصول الإسلام به، عوقب بما لا يتحمله إذ عزل من منصب القضاء وتم تجريده من درجته العلمية.
هنا كان علينا أن نفرق بين عن الوعي بالثورة وبين ثورة الوعي، وهذا مصطلح أفاض فيه المفكر الكبير المغربي العربي الدكتور سعيد بن سعيد العلوي، حيث إن وعي الثورة لا بد أن تسبقه ثورة وعي.
وهذا المحور كان الحديث فيه مقسماً بين المفكر من خلفية علم الاجتماع الذي يهتم بحراك الشعوب ووعيها وتكوينها، وبرزت هنا نقطة مهمة وهي أن الثورات في أي بلد عربي هي بالمعنى المعماري "خلخلة مجتمعية كما هي خلخلة سياسية، ولأن أي خلخلة تؤدي إلى شروخ وسقوط أبنية متهالكة تخرج الجرذان من الجحور للتوغل في ثنايى طبقات المجتمعات، لذا حاولنا أن نفسر السبب والعلة وراء ظهور تيارات الإسلام السياسي إبان تلك الثورات، خاصة في مصر وفي تونس.
فتلك التيارات التي كان بعضها يحرم العمل في السياسة، وبالسياسة أصبح بين ليلة وضحاها منخرطاً في السياسة، بل على رأس السلطة التنفيذية كما حدث في مصر حين تولى الرئاسة فيها "محمد مرسي والإخوان".
وكما حدث مع التيارات السلفية التي هرعت إلى تشكيل أحزاب سياسية وانخرطت في اللعبة السياسية، التي ما عادت محرمة بالنسبة لهم واحتلوا في الانتخابات البرلمانية 2012 المرتبة الثانية بعد حزب الإخوان.
إذا كان الدخول إلى تفكيك بنية عقل جماعات الإسلام السياسي جزءاً مهماً من مداخل هذا المشروع.
* لم يكن هذا وحسب، بل كان الدخول إلى تفكيك بنية التشدد في الفكر الإسلامي جزءاً أصيلاً من البحث، وهنا استدعي مصطلح مهم طرحة الدكتور محمد عثمان الخشت، وهو "الإسلام المنسي" فاكتشفنا أننا أمام إسلام معاش في الحاضر، وهو النسخة المزيفة غير الحقيقية عن الإسلام الحقيقي الذي هو "الإسلام المنسي".
ما الذي حدث أدى بنا إلى هذا التغير الكبير ثمة مراحل وتراكمات توالت منها ما هو تاريخي ومنها ما هو فقهي، أدت بنا إلى ما نحن عليه الآن.
وهذا أضاء لنا زاوية مهمة عن الحلول أو المخارج التي تعيدنا إلى حقيقة الإسلام كدين وكمشروع فكري نهضوي تنويري، وهنا ظهرت لنا "المصفوفة الفقهية الإسلامية" التي تراكمت على مدار ألف وأربعماية عام، دون أن تمر بمرحلة الغربلة والتنقية والفرز، وهنا أذكر ما قامت به مصر والكويت وسوريا، حين اشتغلت على تنقية تلك المصفوفة الفقهية من كل ما لا يلائم الواقع المعاش ويلائم منطق العقل.
لماذا هذا الأمر مهم؛ لأن جماعات التكفير والتشدد لم يأتوا بشيء من عقولهم وإنما استقطعوا من مخزن الفقه ما يلائم مشاريعهم الدموية، وحولوا الفقه والفتاوى والاجتهاد والقياس إلى "سوبر ماركت" كل يدخل إلى الأرفف ويحمل ما يشاء.
المدهش المزعج في آن واحد هو أنه بعد الانتهاء من المصفوفة الفقهية بمجهود مصري كويتي، وضعت في غياهب الأرفف والإدراج ولم يتم الاستفادة منها.
لم يتم تحويلها إلى مشروع ومنهج فكري جريء قادر على أن يقول هناك في فقهنا ما يجب أن نعلن أنه غير ملائم، فقد كان ملائماً لزمانه والأزمنة تتبدل وتتغير.
الاكتشاف الآخر أن كثيراً من علماء الدين على جميع المستويات يخافون فعلاً بالمعنى الحرفي للكلمة أن يعلنوا ذلك، لأن هناك تياراً كبيراً من العقول المتشددة ناشط على جميع المستويات وقادر على تحويل أي مشروع تنويري إلى مشروع تكفيري بامتياز، وهناك الكثير من التجارب المؤسفة التي تدل على ذلك.
نذكر على سبيل المثال "مشروع الدكتور علي عبدالرازق" صاحب "كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي خرج في توقيت مهم جداً بعد أن ألغى "أتاتورك" الخلافة العثماينة عام 1924 وقتها سال لعاب كثير من القيادات العربية على منصب الخليفة، كل رأى في نفسه بديلاً للخليفة العثماني، ففي مصر صدرت مجلة اسمها الخلافة، وتمت الدعوة إلى مؤتمرات تكرس أن الخلافة شرط واجب لإسلام المجتمعات، وأن مجتمع بلا خليفة هو مجتمع منقوص الإسلام.
ولما خرج الدكتور علي عبدالرازق بمشروعه الإسلام وأصول الحكم، ليؤكد أن الخلافة شكل يختاره الناس مثل الملك أو الأمير أو الرئيس ولا علاقة لأصول الإسلام به، عوقب بما لا يتحمله، إذ عزل من منصب القضاء تم تجريده من درجته العلمية وصدرت مجموعة من المؤلفات التي تهاد حمه بل تكفره، وأجريت محاكمة شهيره معه في الأزهر الشريف.
الغريب الذي اكتشفته أن صحافة داعش الإلكترونية ومواقعها على الإنترنت استقطعت أجزاء من محاكمة الشيخ علي عبدالرازق وتحديداً من ضحيفة الاتهام الموجهة إليه، ليثبتوا أن الخلافة فرض.
"أبوبكر البغدادي" أخذ كل هذه الاتهامات التي وجهت للشيخ علي عبدالرازق لتكون المبررات الفقهية التي يؤكد بها صدق مقولته بضرورة وجوب الخلافة.
* لقد قادنا البحث إلى تجديد الفكر الديني و"تجديد الخطاب الديني"، وهنا أذكر مقولة الرئيس عبدالفتاح السيسي في بداية حكمه وهو يطالب بضرورة تجديد الفكر والخطاب الدينيين، كان كلام الرئيس في حضرة الإمام الأكبر فضيلة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر.
أخذ هذا المصطلح وهذا المطلب إلى العقول العربية ليس إلى علماء الدين فقط، بل إلى المفكر بمعناه الواسع، أساتذة الفلسفة الإسلامية، والفسلفة الغربية، والعلماء والمتخصصين في الفكر الإسلامي.
كل راح ينظر إلى فكر التجديد بطريقته الخاصة، فالدكتور عبدالمجيد الشرفي سعى إلى عصرنة الإسلام وتحديثه، وآخر إلى التحديث بمعناه الغربي وهكذا.
ثم ناقشت نظريات التجديد من عدة مناظير ومداخل، المدخل السلفي الذي يرى التجديد هو نسف للقديم وللأصول، وأنه يجب الوقوف عند المعنى الظاهر للنص، وأن الغوص إلى المعنى الباطن للنص تجرأ على مقصد الله. وأن التأويل تكفير.
رغم أن الإمام محمد عبده "المجدد ورائد النهضة والإصلاح" قال "لا تكفير مع التأويل" وقال أيضاً عندما رفع الوحي "لا سلطان على العقل".
* لم أقف في فهم التجديد عند الدين الإسلامي فقط، بل ناقشت التجديد في الفكر الديني المسيحي، وأشرت إلى عدة مشاريع أقدم عليها المفكرون في لبنان منهم "ميشيل باسيل عون" و"بشارى صارجي"، و"بشارى الخوري" وآخرون.
كما تطرقت أيضاً إلى أزمات التجديد في المذهب الشيعي؛ خاصة نظرية ولاية الفقيه التي أسس لها الخوميني، وهو يضع لبنات دولته التي أطلق عليها "الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
تلك النظرية التي شقت الصف الشيعي قبل أن تشق الصف السني والعربي كله، وخلقت أزمة كبرى اسمها غيبة الشيعة العرب الذين تمزقوا في ولائهم بين ولائهم الديني الذي يخرج عن جغرافيا أوطانهم إلى الفقيه الإيراني وبين ولائهم لأوطانهم.
وهنا حدث عدة شروخ رأيناها أمام أعيننا في لبنان والعراق وفي البحرين وفي اليمن، وتحولت المجتمعات إلى خلايا سرطانية يأكل بعضها بعضاً.
أيضاً كانت أزمات التجديد في الفكر السني متأزمة، خاصة في العصر الحديث انطلاقاً من عدة مستجدات وطوارئ أولها "حاكمية أبوالأعلى المودوي" التي انطلقت في باكستان لتتخطى الجغرافيا إلى العقول العربية ثم يأخذها ويزيد عليها سيد قطب "ويصنع حاكمية أكثر حدية ودموية".
ومنها تخرجت تيارات تقتات على نفس الفكر تتحرك بين إخوانية مستترة ثم طالبنانية ظاهرة في أفغانستان وجهادية مقاتلة في افغانستان أيضاً، تحت شعار ضرورة محاربة المحتل الكافر لبلد مسلم يقصدون الروس.
ثم تأخذ شكلاً أكثر حدية مع القاعدة وتبدل ثوبها في شكل أحدث وأكثر قبحاً هو داعش.
كلها أشجار مختلفة خرجت من بذرة سامة واحدة.
** انتقلت إلى طرح آخر محير ومقلق وهو لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟ لماذا دائما مشاريعنا النهضوية التنورية لا تكتمل؟
هل كانت حقاً مشاريع نهضوية تنويرية أم كانت مجرد موجات ما تلبس أن تولد لتموت؟
هنا اختلف الجميع على المنطقة التي يوجد فيها العقل العربي، هل نحن في منطقة التخلف، أم في منطقة الانحطاط؟
وانحاز كثيرون إلى أننا في منطقة الانحطاط، لأن المتخلف يولد على تخلفه لا يشترط أن يكون قد مر بأي وعي أو تنوير، فالتخلف أبدي دائم.
أما الانحطاط فيسبقه ارتفاع أو معرفة ووعي وتنوير، فالانحطاط لا يأتي إلا بعد تحضر وتنوير، وهذا ما ينطبق على أمتنا وحضارتنا، فلا جدال في أننا كنا أصحاب حضارة وعلم، وأننا شركاء في الحضارة الغربية الآن كما يطرح "العلامة الفذ رشدي راشد".
أذكر أنني التقيت في الكويت الدكتور "الزواوي باغورة" وهو فيلسوف جزائري كان يعمل في الجامعات الكويتية، وقال لي توصيفاً مدهشاً عن الحالة التي وصلنا إليها قال:
"نحن انتقلنا من مربع التخلف إلى مربع إنتاج وتصنيع وتعليب التخلف ثم انتقلنا من مربع إنتاج وتصنيع وتعليب التخلف إلى تصدير التخلف، ولم نقف عن حد التصدير، بل روحنا نوصله "ديلفري" على البيوت".
قد يكون التوصيف صادماً لكن للأسف الواقع يثبت ويؤكد ذلك، في كل مشهد وفي كل حالة وفي كل متغير على الأمة.
نكمل في مقال قادم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة