ما يحدث من حراك في معظم المدن والمحافظات الإيرانية يتطلب إعادة قراءة ما يحدث، تطوراته ومستجداته، بتفكير ومنطق ورؤى "خارج الصندوق".
تعمدت الدولة الفارسية صاحبة الثأر التاريخي مع العرب وجغرافيتهم وحضورهم السياسي والاجتماعي على إذكاء كل عوامل وعناصر ومتناقضات الخلافات والفتن والطائفية، بل تمكنت من النجاح في تدمير مفهوم الدولة القومية ذات السيادة عبر الدعم المباشر لمليشيات مسلحة عملت لسنوات طويلة على تدمير المعنى القومي لمفهوم الدولة ومؤسساتها وكيان حضورها في نفوس وعقول مواطني الدول العربية.
هذه الثأرية وجهت إلى دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن ثم البحرين، وكان هناك سعي حثيث للحضور في مناطق القرن الأفريقي ودول شرق قارة أفريقيا وغيرها، وما يحيط هذه الدول من ممرات مائية وملاحية استراتيجية، عقب ثورة الخميني عام 1979 تحديداً، ومع استغلال طبيعة الخلافات العربية ومسار الأطماع الغربية في المنطقة وثرواتها عملت إيران على تحقيق مآربها وأظهرت حالة يُصعب تفسيرها وهي غاية في التعقيد، منطلقة من أحقاد تاريخية جعلت منهجهم هو الانتقام من هزائم وانتصارات عربية منذ تاريخ سحيق.
وفي لحظة تغافل متعمد وغير متعمد من دول عربية كبيرة في المنطقة أسهم تمادي إيران في فرض واقع "وقح" لم تعرفه من قبل الأعراف السياسية أو تقاليد علاقات دول الجوار، تمثلت في إمعان نظام الخميني في التصريح بأن مليشياته المسلحة تسيطر على أربع عواصم عربية، من مفهوم المنتصر المتفاخر بتدمير تاريخ عواصم الأمة والثأر منها.
ما سبق من تفاصيل وحيثيات رغبت في أن تكون تمهيدا لحقيقة أن المشهد في إيران اليوم أظهر الكثير من الخبايا التي كانت غائبة وخفية لواقع من الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتطرف الديني القمعي الثيوقراطي، تحكمه أشباه أصنام ترفع من مقامها حد قدسية الإله، وما هي في الحقيقة سوى تخاريف وخرافات لا تعدو سوى قصص من الأساطير غير السوية والفاشية.
نحن اليوم أمام واقع لا بد من قراءته من أبعاد مختلفة، فما كان بركان خامد باتت حممه تتصاعد، نظام سياسي فاسد بل مفسد ومثير للفوضى، قد يتمكن هذه المرة من إخماد انتفاضة الشارع من خلال أجهزته القمعية والفاشية، في ظل صمت مريب من المنظمات الدولية التي تكيل بمكيالين، فلم نعد نسمع عن تقارير أو انتقادات أو بيانات، هي لا تنظر لهذا النظام بالعين ذاتها التي توجهها للأنظمة العربية، التي مهما اختلفنا مع سياساتها لن تكون بحالة الفُجر الأمني المتبع في دولة الملالي.
لم تعد الجغرافيا ولا الحدود ولا السياسة هي التي تحكم الكثير من دولها، بل أضحت الصراعات الطائفية والمذهبية والمناطقية والعرقية الشبح الذي يهدم المجتمعات ويفكك الدول ويفقد الحكومات سيطرتها على مواطنيها وحدودها
هذه الرمال المتحركة في المنطقة وما يحدث من حراك في معظم المدن والمحافظات الإيرانية يتطلب إعادة قراءة ما يحدث، تطوراته ومستجداته، بتفكير ومنطق ورؤى "خارج الصندوق"، تكمن في دور مراكز الأبحاث الاستراتيجية المتخصصة، والأجهزة الأمنية القومية والسياسية ذات العلاقة في تحليل ورصد كل شاردة وواردة، بدءا بالأبعاد الاجتماعية والعلاقات المجتمعية، وصولاً إلى واقع التوجهات الاقتصادية والسياسية التي أثرت في هيجان الشارع والشباب، وانتهاء بدراسة وتحليل وتقدير حالة تعامل دولة عمائم الملالي مع هذه الانتفاضة، مع تقرير وقائع الإخفاق والقصور، وكيف يمكن أن تنجح وتحقق غايتها في سقوط هذا النظام، ليس من منطلق الرغبة بالفوضى أو سقوط الدول، بل سعياً لإيقاف حالة التدخلات الفج في إثارة الفوضى والتدمير الحاصل في عدد من الدول العربية.
لا بد من أن تلعب الدول العربية ذات التأثير بأدوات إيران نفسها التي سعت لتدميرها، فإذ لم تنجح انتفاضة اليوم لا بد أن تنجح غدا بأدوات وآليات واستراتيجيات نوعية ومختلفة ومدعومة بكثير من الرؤى والإجراءات التنفيذية على الأرض، وليس في إطار التنظير والتصريحات الإعلامية، واقعنا يتطلب سياسات وتوجهات مدعومة في الداخل عبر حلفاء ومن خلال تقاطعات المصالح التكتيكية التي تفضي بالضرورة إلى استراتيجيات نوعية ومستقبلية تحفظ الأمن القومي العربي في جميع أشكاله وأبعاده الجيوسياسية.
وهذا يفرض على الدول العربية، والخليج تحديداً، العمل في إطار عدة دوائر أمنية وسياسية متشابكة ومتقاطعة، من منطلق الخطورة التي باتت تمثلها استمرار استهداف الدولة القومية العربية عبر التدخل في شؤونها بشكل فج وفوضوي، واستهداف تفكيك جيوشها الوطنية عبر دعم المليشيات المسلحة الإرهابية، مع عدم إغفال قراءة الأسباب التي أفرزتها التحديات والتهديدات الدولية والإقليمية والمحلية التي باتت تواجه فكرة البقاء والاستقرار للمنطقة ودولها.
وهذا البُعد يحتم على الدول العربية ذات التأثير -مرة أخرى- إلى إعادة قراءتها لتحالفات المنطقة، التي تصاغ وفق مصالح برجماتية تفرضها القوى الدولية التي قد تكون المسمار الأخير في كيانات دول المنطقة، أو على الأقل تحييد مواقفها، وخلق أزمات محلية تدفعها إلى الانعزال عن واقع التحالفات الجديدة في الشرق الأوسط.
وذلك عبر حماية الأمن القومي لدول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية من تمدد النفوذ الإيراني في العواصم العربية، واستعادة الأخيرة نفوذها ودورها في المنطقة ضد النفوذ الإيراني لتخفيف الدور والتوجه الطائفي.
وبطبيعة الحال.. لا يمكننا أن نغفل حقائق الجغرافيا وتراكمات التاريخ التي تفرض علينا تبني مفهوم للأمن القومي، يشمل مجموعة إجراءات لحماية مصالح دولنا الداخلية والخارجية من أي تهديد، وبما يضمن تحقيق أهدافها وغاياتها القومية، وقبل كل ذلك تحديد الأخطار أو مصادر التهديد، عبر تقدير مدى تأثير المصالح على المواقف، ففي الوقت الذي تحافظ بعض الدول على تحالفاتها تجاه قضية ما لاعتبارات تتصل بمراعاة مصالحها الاستراتيجية السياسية والأمنية تتغير مواقفها سريعاً دون مراعاة التوافقات الآنية أو التكتيكية، ويأتي ذلك وفقاً لإعادة ترتيب المصالح وتقدير مصادر التهديد من مرحلة إلى أخرى.
ونتيجة ما سبق من أفكار وتوجهات تستدعي تسليط دائرة الضوء نحو النظام المتربص بالدولة العربية وإدراك أن انفراد دولة أو اثنتين بمواجهته دون بناء تحالفات متفقة في التكتيك والاستراتيجيات سيتمخض عنه سقوط جديد لدول أخرى، ودخول المنطقة في فوضى وحرب منسية لعقود طويلة.
والخلاصة تفضي إلى أن المنطقة العربية تمر بمرحلة فارقة في تاريخها، فلم تعد الجغرافيا ولا الحدود ولا السياسة هي التي تحكم الكثير من دولها، بل أضحت الصراعات الطائفية والمذهبية والمناطقية والعرقية الشبح الذي يهدم المجتمعات ويفكك الدول ويفقد الحكومات سيطرتها على مواطنيها وحدودها، وبات ذلك الخطر الأكبر في منظومة سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة