حلم "مارتن لوثر كنج" مازال يراود الطبقة المثقفة في مجتمعاتنا، ولكنها للأسف لم تدرس تجربته؛ ولم تتعمق في المآلات التي صارت إليها.
حتى لا يكون العنوان ملغزاً فالمقصود هو أن نتائج القرارات السياسية أهم كثيراً من العملية التي يتم من خلالها صناعة هذه القرارات، وبعبارة أخرى فإن المستفيدين من القرارات السياسية، والسياسات العامة أولى بالاهتمام من المشاركين في الحكم، وفي اتخاذ القرار. وهذه مقدمة قد تزعج الكثيرين من عشاق الديمقراطية الغربية؛ التي أغرمت النخبة المثقفة في مجتمعاتنا بمظاهر جمالها، وبريقها الخارجي دون أن تغوص في أعماقها، أو تسبر أغوارها، أو تعرف بعمق طبقاتها الجيولوجية الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية.
في 19 يناير 1998 دعيت للمشاركة بكلمة في احتفال مدرسة أولادي؛ في شمال فرجينيا بالولايات المتحدة؛ بيوم المناضل الأمريكي من الأصول الأفريقية "مارتن لوثر كنج"، ركزت في كلمتي على الحلم الذي اغتيل من أجله "مارتن لوثر كنج" وأن هذه الحلم بتحرير الإنسان الأفريقي في أمريكا لم يتحقق منه إلا الثلث السياسي، أما الثلثان الاقتصادي والاجتماعي فلم ولن يتحققا؛ لأن تمكين المواطنين ذوي الأصول الأفريقية في أمريكا تم على المستوى السياسي فقط؛ من خلال خدعة الديموقراطية؛ فأصبحت لهم حقوق التصويت والانتخاب والترشيح. ولكن هذه الحقوق السياسية تحتاج إلى بنية تحتية اجتماعية اقتصادية، وإلا تصبح عديمة المعنى، لأن السياسة في النهاية تتحكم فيها الجهات التي تدعم وتمول الأحزاب والانتخابات، وتتحكم فيها المهارات التي يكتسبها المرشحون من خلال التعليم المتميز في جامعات لا يلتحق بها إلا أبناء الطبقات الغنية، وتحتاج خبرة ومهارة وتفرغ لا يستطيع الحصول عليها من يلهث وراء قوت يومه بالعمل في وظائف مؤقتة... وهذا هو حال ذوي الأصول الأفريقية في أمريكا إلى اليوم.
لذلك كانت النتيجة أنه تم تحرير "الأفارقة" في أمريكا من أن يكونوا عبيدا لأفراد من البيض الأوروبيين؛ وإعطاؤهم الحقوق السياسية، ولكن نظرا لأنهم بدؤوا حياة جديدة بدون أسس اجتماعية اقتصادية، فقد تحولوا إلى عبيد للمجتمع يقومون بنفس الوظائف التي كانوا يقومون بها في زمن الرق، ولكن لصالح المجتمع الكبير.
حلم "مارتن لوثر كنج" مازال يراود الطبقة المثقفة في مجتمعاتنا، ولكنها للأسف لم تدرس تجربته؛ ولم تتعمق في المآلات التي صارت إليها. ولم تزل تتعلق بمدخلات العملية السياسية، ومن يديرها، ولا تكترث كثيرا بمخرجاتها، أو ثمارها ونتائجها، والحقيقة أن الاهتمام بمدخلات العملية السياسية، أو عملية اختيار من يحكم، ويتخذ القرار تتم عبر دورات مقننة يحددها دستور كل دولة، بعضها كل سنتين وبعضها كل أربع سنوات أو أكثر من ذلك، وما بين هذه الدورات لا يكون للمدخلات وجود ولا تأثير، فقد يتورط المجتمع في اختيار نخبة سياسية فاشلة أو فاسدة، وتجارب العالم العربي بعد انتفاضات الربيع المشؤوم لا تحتاج إلى مزيد شرح أو تفسير، لأن مجتمعاتنا لم تزل تمارس العملية الديموقراطية إما بعقلية القطيع- كما هو الحال في الأحزاب الأيديولوجية خصوصا الدينية منها، حيث يكون الصوت الانتخابي واحد وخلفه ملايين الأصداء البلهاء التي لا تعقل- وإنما تتبع وتطيع، ولا تعرف من تختار، إنما تعرف فقط الانتصار للحزب أو الجماعة. وإما أن تمارسها بعقلية السوق والبيع والشراء، حيث يكون الصوت الانتخابي سلعة يتم تقدير ثمنها ودفعه، وإما تمارسها بعقلية المكايدة والانتقام فتختار أي بديل للذي كان موجودا كراهية فيه، والقليل النادر هو الذي يختار بعقل رشيد.
والحال هكذا ينبغي أن تكون مخرجات العملية السياسية أولى بالاهتمام والتركيز، وأجدر بأن يتم ترشيد نظم الحكم طبقا لها، وأن يكون اهتمام المثقفين والكتاب وقادة الرأي منصباً عليها؛ وذلك من خلال رصد وتتبع سياسات الحكومة، وتقييم ثمارها ونتائجها، وتحديد الطبقات التي تستفيد، والمجالات التي يتم عليها التركيز، وأن يؤسس النقد والتقويم طبقا لوجهة المخرجات وطبيعة المنجزات، وثمار السياسات. وذلك من أجل تحقيق ثلثي حلم تحرير الإنسان كما كان يحلم "مارتن لوثر كنج" وهما التحرير الاقتصادي والتحرير الاجتماعي، بأن يكون إنسانا مستقلا اقتصاديا، تم تمكينه اجتماعيا من خلال التعليم، ونمط الحياة، والرقي الاجتماعي، والأخلاقي اللذين يكتسبهما من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، والمناخ الثقافي والإعلامي والفني الذي ينشأ فيه.
وبعد أن يتحقق الحل الاقتصادي والاجتماعي يكون الحلم السياسي، أو التمكين السياسي نتيجة تلقائية طبيعية يكتسبها إنسان رشيد متعلم مستقل حر بكل معاني الكلمة، لا يقبل أن يسلم عقله لراعي القطيع الذي يستعبد البشر الذين كرمهم الله باسم الدين، ولا يبيع رأيه ولا قراره بأي منافع أو مزايا.
وفي هذا السياق وبهذه العقلية يمكن النظر إلى ما يحدث حاليا في مصر، فهناك عملية حضارية ضخمة، وغير مسبوقة في نصف القرن الأخير لتحرير الإنسان اقتصاديا واجتماعيا، من خلال النهوض بأفقر الطبقات، والتركيز على البنية التحتية، وفتح الأفاق لتحريك الإنسان وتحريره من عقلية الاعتماد على الدولة، أو الاعتماد على الإعانة إلى عقلية المغامرة والإنجاز والتطوير واقتحام مجالات جديدة. وهنا سنجد أن مخرجات العملية السياسية في مصر هي في صميم ترسيخ الفكرة الديموقراطية بمعناها الاقتصادي والاجتماعي أولا، وأنها تصب في صالح الجماهير العريضة، والأجيال القادمة، وأنها تؤسس لزمن قادم تتحقق فيه الديموقراطية بكل جوانبها الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة