كيف يمكن أن تدعم فرنسا العراق في مجالات مجال الطاقة أو بناء مترو بغداد أو الإعمار؟ بدون معالجة مشكلة ترسيخ دعائم الدولة القوية.
في قصر السلام ببغداد، حيث مقر رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح، كانت التحضيرات لاستقبال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، حيث حرص الرئيس العراقي على أن يتناول ضيفه الفرنسي القهوة العربية، قبل توجههما إلى المنصة، فتحسس مرارتها وهي جزء من مرارة مشاكل هذا البلد المعقدة والخطيرة.
تندرج زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لبغداد في ظروف تحولات وتغييرات جيوسياسية جذرية في منطقة الشرق الأوسط، وما تعّج به من صراعات داخلية على الحكم في ليبيا والعراق وسوريا واليمن ولبنان وحالة التشظي التي تعاني منها وكذلك عدم الاستقرار السياسي.
إضافة إلى أن العراق يعيش في ظروف التغوّل الإيراني وميليشياته، وتحديها لإدارة الرئيس ترامب، في انسحاب قواته التكتيكي، وإعادة انتشاره، ودعم مصطفى الكاظمي في خطواته نحو نزع سلاح الميليشيات، والتعامل مع أذرع وميليشيات إيران، وتهديداتها بصواريخ الكاتيوشا على المنطقة الخضراء والسفارات المتواجدة فيها.
وتتفق الرؤية الفرنسية مع الخطوة الأمريكية في الشرق الأوسط وهي مواجهة إيران التي تدعم الإرهاب من خلال أذرعها ومليشياتها. ازداد اهتمام الرئيس الفرنسي ماكرون بمنطقة الشرق الأوسط إثر انفجار مرفأ بيروت، حيث أكد على ضرورة الابتعاد عن الطائفية ومكافحة الفساد وإجراء الإصلاحات، وبدون ذلك، لن يلق لبنان الدعم الاقتصادي الدولي، وكذلك خطابه في العراق لم يختلف كثيرًا إذ ظهر بمظهر الناصح والموّجه لسياسة العراق التي طالبها بضرورة السعي إلى ترسيخ دعائم سيادة العراق وإعادة هيبة الدولة، ونزع سلاح المليشيات. وهي مطالب ليس من السهولة تطبيقها على الأرض، وربما كانت رسالة ماكرون موجهة إلى الأحزاب والفصائل الموالية لإيران، وإصرار فرنسا على عدم السماح بأن يكون العراق بيد الإرهاب سواء كان من طرف داعش أو المليشيات.
تأتي زيارة ماكرون إلى بغداد والعراق في أضعف حالاته وأردأ أوضاعه، حيث الانقسام والتفكك والفقر والمرض والحاجة والبطالة واليأس. وفي خطابه، تحدث الرئيس الفرنسي عن سيادة الدولة العراقية المعرضة لشتى أنواع الخروقات من تركيا، في حدوده الشمالية، والدواعش في حدوده الغربية، وكذلك عجز الأجهزة العسكرية والأمنية عن وقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المنطقة الخضراء.
لفت ماكرون إلى موضوع السيادة كموضوع رئيسي في خطابه مع القادة العراقيين لكن خطابه كان بالنسبة للعراقيين مجرّد "كليشيهات" لم تلامس جوهر الأزمة العراقية المتمثلة بهيمنة الأحزاب الدينية والمليشيات على القرار العراقي.
كيف يمكن أن تدعم فرنسا العراق في مجالات مجال الطاقة أو بناء مترو بغداد أو الإعمار؟ بدون معالجة مشكلة ترسيخ دعائم الدولة القوية وتهميش المليشيات التي تساهم في خلق حالة اللادولة.
كان على الرئيس الفرنسي أن يلتقي في زيارته القصيرة بأطراف عديدة، لأن السلطة مشتتة بين رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس إقليم كردستان، والقادة الدينيين، والقوى الخفيّة التي تتحكم بالقرار العراقي من وراء الكواليس.
تبقى كلمات الرئيس الفرنسي حبرًا على ورق ما دام ليس هناك ضرورة إصلاح للنظام السياسي القائم، وإلغاء دور الطوائف في الحياة العراقية، وهي الضمانة الوحيدة لترسيخ أركان الدولة القوية. أما ما يتعلق بالتعاون العسكري العراقي الفرنسي، فهو ضعيف أصلاً ويقتصر على تدريب القوات العراقية الذي توقف بعد اجتياح وباء كورونا، ويأمل الفرنسيون عودتهم إلى تدريب القوات العراقية.
ومن جهتها تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز دعمها لحكومة مصطفى الكاظمي لكي لا يتورط العراق في محاور تحالف من شأنها تفقده سيادته، والرئيس ماكرون يؤكد هذه الخطوة لدرء التدخلات الخارجية في شؤون العراق. أما ما يتعلق بالإرهابيين الفرنسيين المسجونين في العراق، فيرى ماكرون ضرورة محاكمتهم في البلدان التي ارتكبوا فيها أعمالاً إرهابية لأنها بلدان ذات سيادة. وقد حكمت بغداد على 11 فرنسياً محتجزاً لديها بالإعدام.
أما ما يخص الدعم الاقتصادي الفرنسي للعراق، فلا يزال عبارة عن وعود، لأنه يفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لهذا التعاون، فما يزال العراق حائرًا في توفير الكهرباء بين إيران والمملكة العربية السعودية والآن فرنسا التي تعد العراق ببناء قوة نووية لهذا الغرض. لكن ذلك يعتمد على القوى السياسية التي ستأتي على الحكم بعد الانتخابات المبكرة في العام المقبل. وتبقى الاستثمارات الدولية في العراق مجرد ضرب من الخيال في ظل وجود الدولة العميقة والمليشيات المنفلتة والأحزاب الفاسدة، لأن الاستثمار يتطلب الاستقرار السياسي وهو بعيد المنال في ظل الظروف الحالية.
على أي حال، تشجع فرنسا العراق على دخوله في محاور معتدلة كالمحور الاقتصادي بينه وبين الأردن ومصر، الذي أعلن مؤخرًا من أجل إبعاد العراق عن التأثيرات الإيرانية، وهو ما يشكل نقطة التقاء بين الأمريكيين والفرنسيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة