ضمن التبريرات المعتادة لتيارات الإسلام السياسي عندما تفشل في مكان، أو تخفق في قضية، أو تنهزم في مرحلة، اللجوء إلى شخصنة الانتكاسة.
بل وتلجأ أيضا تحميل المسؤولية لطرفي المعادلة "الزعيم-النهج"، دون الجزم بتحديد المتسبب بشكل قاطع، ودون قراءة موضوعية للبنية الفكرية والأيديولوجية، التي تؤطر حدّي الثنائية "الزعيم-النهج"، وتمنعه من الاجتهاد المطلوب لابتكار صيغ ومقاربات تتناسب مع الموقع والمسؤولية الوطنية، التي يتصدى لها حين يصل إلى موقع القرار.
هذه "الجدلية-الثنائية" لم تصل حتى الآن إلى جواب صريح وحاسم، وظلت طرحا إشكاليا أقرب إلى الإيهام المتعمد للجمهور منه إلى النقد المعرفي المجرد، الذي يشخّص علة وأسباب الهزيمة ويدل على المسبب، ويقترح سبيلا لتعافي المعلول عبر عملية واعية لتنقية المسيرة والمسار من الشوائب، ودون إجراء مراجعة شفافة تأخذ بعين الاعتبار المستجد من الظروف والمعطيات والأحداث وسيرورة الزمن.
تطرح ظاهرة تساقط تيارات الإسلام السياسي من السلطة في أكثر من مكان خلال السنوات القليلة الماضية فكرة إجراء قراءة معكوسة لما درج المختصون والباحثون على سلوكه، أي تتطلب ظاهرة الخسارات المتتالية لأذرع تنظيم الإخوان الوقوف بتجرد أمامها وتفكيك الخطاب الإخواني ببعديه السياسي والعقيدي من طرف، وتسليط الضوء على العلاقة الملتبسة بين بنية تلك التنظيم وبين زعاماته التي تقلبت على أذرعه في غير مكان من طرف آخر.
السقوط المدوي لحزب العدالة والتنمية المغربي طوى صفحة الصراخ، الذي تلجأ إليه تلك التيارات إبان كل هزيمة يتعرضون لها ويحمّلون فيها المسؤولية عن انتكاساتهم للسلطة الحاكمة، أيا كانت طبيعة وهوية تلك السلطة، كما شرّع الأبواب على وجوب دحض مسألة غاية في الأهمية تتعلق بجدلية العلاقة بين النهج والزعامة داخل هذه التنظيمات وفشلها في تصدير خطاب متجانس للرأي العام، وعقمها في إنتاج حالة تطوير ذاتية لخطابها ونهجها وكوادرها.
الأكثر إثارة أن حزب العدالة والتنمية المغربي حظي بمساحات رحبة في ممارسته للسلطة وحاز خلال وجوده على رأس السلطتين التنفيذية والتشريعية في المغرب لما يقارب عقدا من الزمن، تقدير منافسيه ومعارضيه على مختلف الصعد والمستويات في إطار قواعد اللعبة الديمقراطية، ومارس السلطة برؤاه دونما تحديات وعراقيل، لكنه أضاع فرصا كثيرة في المحافظة على معادلة السلطة والتحزب، فكان أن تآكلت شرعيته الشعبية بين مريديه وكوادره قبل معارضيه، وتراجع موقعه إلى ما دون ما كان يتوقعه حتى منافسوه حزبيا وسياسيا، حيث رجحت بعض التقديرات والإحصائيات قبل الانتخابات الأخيرة تراجعه إلى المرتبة الثانية، وفي أقصى تقديرات التشاؤم أن يحتل المرتبة الثالثة بين الأحزاب المتنافسة.
مع إعلان النتائج تبين أن الحزب لم يفقد موقعه المتقدم والسلطة فحسب، ولم ينزف، بحدة، عدد نوابه فقط، بل فقد بريقه وبان هزاله أمام عقوبة ناخبيه القاسية ردا على مجافاة قيادته لأبسط مطالب جمهورها.
في تونس طغت اتهامات قواعد حركة النهضة الإخوانية لقادتهم بالمسؤولية عن الفشل على مجمل الأصوات، وغاب عنها أي مسعى جدي من قبل المتربعين على كراسي قيادة الحركة ومن جانب جمهورها أيضاً لقراءة تنامي ظاهرة الرفض الذاتي والحزبي والشعبي العام لوجودهم في السلطة، واكتفوا بالتوقف عند ثنائية "النهج-الزعامة" وصوّبوا سهامهم نحوها دون أي ربط منطقي وسببي بين غياب المشروع الوطني الجامع عن أدبيات الحركة ووظيفتها كسلطة وطنية، وبين نَهَم بعض زعاماتها للسلطة وحيازتها والتمتع بملذاتها.
أما في واقعة حزب العدالة والتنمية المغربي فكان الماسح الضوئي دقيقا في تعرية الاغتراب الذاتي للحزب ولقيادته رغم هيمنته على دوائر السلطة لعشر سنوات.
في كلا الواقعتين، التونسية والمغربية، وقبلهما المصرية، تتضح حالة الإنكار التي تطبع ثقافة أذرع تنظيم الإخوان وعموم حركات وتيارات الإسلام السياسي، ويعود مبدأ الإنكار هذا إلى الأسس النظرية وإلى الأنظمة الداخلية للتنظيم الأم القائم على المكابرة والإمعان في الخطاب المكرر للتعمية على الفشل والإخفاق الناجمين عن النزعة الذاتية في جميع تجارب الحكم التي مروا بها.
التقاطع بين حيثيات الهزيمة للحزبين الإخوانيين، النهضة التونسي، والعدالة والتنمية المغربي، يقابله التوافق والتقارب لدى حواضنهما الشعبية والحزبية، فبعد إجراءات الرئيس التونسي الدستورية بحل البرلمان بدا الشرخ كبيرا بين حركة النهضة وبين قواعدها، التي سئمت أساليب الإقصاء ومسالك الفساد والاستبداد، وعبرت عن امتعاضها من خلال رفض نداءات الاستغاثة للتمرد على قرارات الدولة التونسية، وفي الحالة المغربية كانت الصدمة من حيث حجمها وقوتها كافية لانقلاب حواضن العدالة والتنمية وإشهارها ضد النهج والزعامة على حد سواء.
هل من سبيل إلى استعادة الروح من قبل تلك الأحزاب؟
من الواضح أن المعضلة لا تكمن في الشكل والإطار، اللذين يحكمان باسم أي تيار من تيارات تنظيم الإخوان، سواء النهج أو الزعامة أو كلاهما، بل في البنى الفكرية والتنظيمية والأيديولوجية التي تسيّرها، وبما أن جميع التجارب التي مرت بها على مدار أكثر من تسعين عاما حتى الآن لم تنتج ظاهرة سلطة وطنية أو إدارة حكم متوازن من طرفها، فالأرجح أن يتلاشى هذا التنظيم بفعل عوامله الذاتية من جانب، وبفعل الرفض العام من حواضنه أولا ومن معارضيه ومنافسيه ثانيا.
لقد تصدعت بناه نظريا، حيث فقدت صلاحيتها، وتشرذمت قواعده حيث فشلت سلطاته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة