خلال الأسبوع الحالي لم يكن هناك حديث في أوروبا وأمريكا إلا عن تداعيات "الصدمة الفرنسية" من خسارة قرابة 30 مليار دولار.
كان هذا المبلغ مكسبا تعوّل عليه باريس من صفقة الغواصات، حيث أقدمت أستراليا في الخامس عشر من سبتمبر الجاري على إلغاء "عقد القرن"، الذي أبرمته في عام 2016 مع فرنسا، بعد تراجعها عن صفقة مع مجموعة "نافال" الفرنسية للصناعات الدفاعية، من أجل شراء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء بـ56 مليار دولار.
وقد تراجعت أستراليا عن الصفقة الفرنسية لصالح شراكة أبرمتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا، للحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهنا كانت "صدمة الفرنسيين"، ففي وجودهم وتحت أعينهم تواصل الأستراليون والبريطانيون مع الأمريكيين بشأن إمكانية الحصول على غواصاتهم النووية.. كل هذا رغم وجود الرئيس الفرنسي في البلدة نفسها معهم كأحد زعماء مجموعة السبع، وهنا أيضا لم يشارك الرئيس "بايدن" -كما يتردد هنا في واشنطن- هذا السر إلا مع فريق صغير، معظمهم من "البيت الأبيض".
باريس قررت استدعاء سفيريها في الولايات المتحدة وأستراليا للتشاور، كما ألغت السلطات الفرنسية حفل استقبال كان مقررا في واشنطن بمناسبة ذكرى معركة بحرية حاسمة في حرب الاستقلال الأمريكية، انتهت بانتصار الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في الخامس من سبتمبر 1781.
أما وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، فقد توقع أن تؤثر هذه "الفضيحة" في مستقبل حلف "الناتو"، في وقت بدأ يتشكل رأي عام يدعم فكرة انسحاب فرنسا، مرة أخرى، من الحلف، كما فعل ذلك الجنرال ديجول عام 1966، بل هناك من يعتبر أن هذه الأزمة عادت بأوروبا إلى قواعد علاقاتها ما قبل قيام "الناتو".
خلال متابعتي للصحافة الفرنسية هذا الأسبوع كان واضحا أن السلطات الرسمية الفرنسية تكتفي بالتلميح إلى هذه الخطوة، وقد طالب المرشحان الرئاسيان لأقصى اليمين مارين لوبان، وأقصى اليسار جان لوك ميلونشون، بخروج فرنسا من حلف الناتو، ثأراً للكرامة الوطنية، كذلك فإن أغلب المراقبين يرون أن تصدع "الناتو" أصبح أمراً قائماً، وسط توقعات بأن العلاقات بين دوله ستزداد سوءاً بمرور الوقت بسبب تباين المصالح، وبالنتيجة سوف تبتعد أوروبا عن الولايات المتحدة، ومؤشرات ذلك كثيرة وصفقة الغواصات إحداها، وليس ببعيد عنا اقتراح إيمانويل ماكرون تأسيس "جيش أوروبي موحد"، وهو المقترح الذي جرى تخفيفه لاحقاً إلى تشكيل قوات تدخل أوروبية، بدعم كبير من ألمانيا.
وهنا يرد السؤال.. كيف سيكون موقف "الناتو" من هذه "الصدمة"؟
الغريب أنه بعد تردد وانتظار داما خمسة أيام، تمكنت باريس من انتزاع دعم الاتحاد الأوروبي الذي اشتكى غياب تنسيق الحليف الأمريكي مع حلفائه، بعد أسابيع من قرار واشنطن الأحادي بسحب قواتها من أفغانستان دون استشارة شركائها.
التحالف الجديد يأتي واقعيا في سياق تحول أوسع للسياسة الخارجية الأمريكية، التي ترى في الصين تهديداً استراتيجياً يجب ردعه.. نعم.. فقد ظهر ضعف وعجز الأوروبيين في خمسة أيام من المراوحة والتردد، قبل أن يصدر أخيرا موقف جاء على لسان ممثله الأعلى للشؤون الخارجية والأمنية، جوزيب بوريل، في نيويورك، الثلاثاء 21 سبتمبر/أيلول 2021، على هامش اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، اعتبر فيه الوضع "مخيبا للآمال للغاية"، وأكد "تضامن الوزراء الواضح مع فرنسا".
كما أفاد بأن القضية لا تهم فرنسا فقط، بل الاتحاد الأوروبي بأسره.
وفي مؤشر على بلورة الموقف الأوروبي، تم تأجيل محادثات مقررة بين بروكسل وواشنطن بشأن السياسات التجارية والتكنولوجية، إذ ألغت الرئاسة السلوفينية للاتحاد الاستعدادات لعقد الاجتماع من جدول الأعمال، بعد أن كان من المقرر أن يبحث سفراء الاتحاد هذه الاستعدادات، الأربعاء 22 سبتمبر/أيلول 2021.
وألمح وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، كليمنت بون، أنه لا يستبعد وقف المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي وأستراليا بشأن إبرام اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين.
وخلافا لما يروج عن إقدام فرنسا على الانسحاب من حلف شمال الأطلسي بسبب الخطوة الأسترالية، فإن ذلك يبدو مستحيلا في رأيي، باعتبار أن الحلف مكون من 28 دولة أوروبية إلى جانب كندا والولايات المتحدة، وبالتالي فهو حلف أصبح حاليا قريبا من توجهات فرنسا وبعيدا عن توجهات واشنطن، التي تسعى بقوة إلى إيقاف الزحف الصيني، لأن حلف شمال الأطلسي لا يريد أن يغير من روحه التي أقيم من أجلها، والمتمثلة أساسا في خلق توازن بين الشرق والغرب، حتى وإن اتجهت واشنطن نحو تحالفات جديدة، مثل إنشاء التحالف الرباعي "كواد"، الذي يجمع الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا.
خلاصة الأمر، لا يحتاج التحالف الفرنسي الأمريكي إلى قرائن، فمساحة المصلحة المشتركة بين الدولتين واسعة جدا، لكن هذا لا يمنع وقوع خلافات حادة بين دولة لا تنسى إرثها الإمبراطوري، وأخرى تعتبر نفسها إمبراطورية العصر، حتى وإن كانت الأيام الأخيرة قد دفعت أزمة الغواصات الأسترالية إلى استدعاء تاريخ طويل ومثير من علاقات جمعت الأمريكيين بفرنسا، وتعود لما قبل تأسيس الدولة الأمريكية، وستبقى باريس وواشنطن حليفتين تقليديتين، ويعتبر تعاونهما السياسي والعسكري ضرورياً.
ورغم بعض الاختلافات المهمة، فإن فلسفتهما السياسية متشابهة، وبمعنى آخر، فإنه رغم التنافس التاريخي في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية فإن فرنسا والولايات المتحدة لم تكونا قط في حالة حرب، وهو ما لا يمكن أن يقال عن حلفاء فرنسا الآخرين مثل بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وبطبيعة الحال ألمانيا، وسيبقى التعاون العسكري والسياسي والاستخباراتي الفرنسي الأمريكي حاسماً من منطقة الساحل الأفريقي إلى الشرق الأوسط، الذي يمكن لباريس أن تعوض من خلاله "صدمة الصفقة" التي لا يمكن تحميل كل أسباب إلغائها لواشنطن وحدها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة