بظهور هذه الكلمات، تكون أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة قد انطلقت، وكلمات الرؤساء، الأقرب إلى خططهم، قد أُلقِيَت على مسامع العالم.
يأتي ذلك في دورة غير اعتيادية، خاصة بعد توقف اللقاءات الدورية العام الماضي، من جرّاء جائحة فيروس كوفيد-19 المستجد.
هذه الدورة هجين بين الحضور بشكل شخصي وبين اللقاءات عبر دوائر التلفاز المغلقة، لا سيما أن واشنطن بشكل أو بآخر لم تكُن مرحبة بمزيد من الضيوف في ظل حالة انتشار الفيروس الشائه مرة جديدة.
تكتسي هذه الدورة بملامح مثيرة للاهتمام الأممي، فهناك خلف الباب وباءٌ فتاك لا يعرف أحد إلى أين سينتهي به المطافُ، هذا إذا كان سينتهي من الأصل، وهناك حاجة ماسّة إلى تضافر الجهود الدولية للمواجهة، بل وربما الأهم هو التوصل إلى حقيقة ما جرى حتى يمكن مواجهة أي طفرات ومتابعة أي تطورات في قادم الأيام تخص انتشار أوبئة مشابهة، والجميع لديه هواجس من أن يكون المشهد بمرارته ليس إلا نوعًا من أنواع الحرب البيولوجية.
على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تبدو هناك ملفات مخيفة على الخليقة مواجهتها، والأمم المتحدة، بيت العائلة البشرية، هي محط الأنظار.. والتساؤل: هل سيُقَدَّر لقادة العالم الملتئم شملهم هناك استنقاذ العالم أم لا؟
في مقدمة تلك الملفات يجيء الحديث عن كارثة التغيرات المناخية، حيث العمل يجري على قدم وساق للتحضير لقمة غلاسكو التاريخية في اسكتلندا أوائل أكتوبر/تشرين أول القادم.
وفي غالب الأمر ستكون القمة آخر خشبة خلاص للعالم من الهَوْل الأعظم القائم والقادم، فبغير توحيد الرؤى واستنهاض الهمم والالتزام إلى أبعد حد ببرنامج عاجل وطارئ، ستصبح غضبة الطبيعة أكبر وأخطر من التصدي لها، ولا نريد النظر من نظارة سوداء ترى أنه لا فائدة من التدخل البشري، فقد سبق السيفُ العَذَل كما يُقال، بل ربما تكون المحاولات الأخيرة والمغيرة أفضل طريق للعودة بالكوكب الأزرق مرة جديدة إلى بر الأمان.
وعشية انطلاق أعمال الجمعية العامة الأخيرة، كان الأمين العام للمؤسسة الدولية، أنطونيو غوتيريش، يطلق تحذيرًا عاليًا من احتمال نشوب حرب باردة جديدة.
وفي مقابلة مطولة له مع وكالة أنباء الأسوشيتدبرس، ذهب الرجل إلى أن الأوضاع بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية تبدو ماضية لا محالة في طريق الحرب الباردة، وأن محاولات إصلاح ذات بينهما متوقفة تمامًا.
"غوتيريش" يتطلع إلى إعادة الأمور إلى نصابها السّلْمي، وقبل أن تمتد المشكلات بين الدولتيْن الكبيرتَيْن، المتمتعتَيْن بنفوذ كبير، إلى بقية العالم، وذهب إلى أنه لا بد للعاصمتين النافذتين، اللتيْن تمثّلان وزنًا اقتصاديا عالميا، من التعاون في الملفات التي تقض مضاجع البشرية، وأولها الملف المناخي، وأن تتفاوضا بعزيمة أكبر حول التجارة والتكنولوجيا.
هل السيد "غوتيريش" حَسَنُ النية إلى هذه الدرجة أم أنه يسعى جاهدًا للقيام بمهمة أصيلة لمنظمته الدولية، وهي حفظ السلام حول العالم؟
يبدو أن الأمين العام قد فاته متابعة الشرر، الذي يكاد يحول المشهد من حرب باردة إلى مواجهة عسكرية شاملة بين الولايات المتحدة والصين من جهة، وبين واشنطن وموسكو من جهة ثانية.
وبحسب ما يرشّح في الأفق من علاقات بينية وتكتونية بين موسكو وبكين، فإن على واشنطن أن تقلق من نشوء وارتقاء تحالُف عضوي جديد لمواجهة خطط الهيمنة الأمريكية والزحف غير المُقدَّس على بقية أرجاء العالم، انطلاقًا من رؤية القرن الأمريكي للمحافظين الجدد، والذي لم ينفك يتآكل بفعل عوامل انهيار الإمبراطوريات من داخلها، وإن كانت هذه قصة أخرى لنا معها عودة في قراءة لاحقة.
يؤكد "غوتيريش" أن العلاقات الأمريكية-الصينية في حاجة إلى إعادة توطيد نموذج فاعل للتعاون الثنائي، بهدف مجابهة العديد من التعديات والتحديات الكوكبية، والتي لا يمكن حلها دون علاقة بناءة داخل المجتمع الدولي، وعلى الأخص بين القوى العظمى.
لكن الرجل البرتغالي، حسن النية والطوية، لا يتوقف عند منعطفات كارثية تُظهر أن المواجهات القطبية قد تجاوزت بزمان وزمانيْن مرحلة الحرب الباردة.
ويكاد الراوي يشير إلى أنه رأى سهام الحروب تُسَنّ والمَراجِل تغلي قبل أن تنطلق نيرانُ المدافع.
ولعل "حرب غوتيريش" -إن استقام التعبير- لم تعدْ باردة في ظل حالة المَقتْ التاريخي الأمريكي المستجد للصين.
ولعل ما يجعل من مخاوف الحرب الباردة شيئًا من الماضي ويفتح أبواب الصراعات الساخنة، ما تكشَّف مؤخَّرًا، بحسب صحيفة واشنطن بوست، من خلال الصور، التي التقطَتْها الأقمار الاصطناعية الأمريكية لما عُرِفَ بـ"سور الصين النووي" تحت الأرض.
فقبل بضعة أعوام أعلنت الصينُ أنها بصدد حيازة ترسانة نووية تصل إلى عشرة آلاف رأس، ما يعني أنها تكاد تتجاوز ما لدى واشنطن وموسكو مجتمعتَيْن من رؤوس نووية.
وقد جاءت صور الفضاء لتُبين، بحسب الصحيفة الأمريكية، أن الصينيين بالفعل يقومون بتجهيز مواقع تحت الأرض لأسلحتهم، التي ستحوّل توازنات الردع، ما يعني أن الصين لن تتوقف عند دائرة الردع النقدي فقط في مواجهة واشنطن، ولكنها ستسعى أيضًا في طريق الردع النووي.
ولعله من مصادفات القدر أن تأتي تصريحات السيد "غوتيريش" في ظل أزمة جديدة تتفجر بين ثلاثي غربي يتمثل في أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، أزمة الغواصات النووية الأمريكية المتقدمة، والتي لا توجد إلا لدى بريطانيا، الصديق الأوثق والحليف الألصق للأمريكيين.
القصة باتت معروفة، إذ ألغت أستراليا صفقة مع فرنسا لصالح أخرى مع أمريكا تكفل للأستراليين حربًا بالوكالة مع الصينيين عند القارعة، وهو الأمر الذي اعتبرَتْه الصينُ نوعًا من أنواع المواجهة الأمريكية غير المباشرة معها، ما يجعل من الوضع الدولي في منطقة الباسفيك-إندو مهيأ لاشتعال النيران في أي لحظة.
"غوتيريش" يُصرّ على أنه "ينبغي أن يتجنب العالم حربًا باردةً مهما كَلَّفَ الأمر"، وهو مُحِق في ذلك، لكن المساقات الزمنية تبدو قد تجاوزت تحذيراته، فهناك حرب ساخنة سيبرانية تجري بها المقادير، وعما قريب جدًّا سوف تنطلق أزمة جديدة من موسكو إلى واشنطن بعد أن ترتفع أصابع الاتهامات الروسية للأمريكيين من جرّاء ما يقال عن تدخلاتهم في الانتخابات البرلمانية الروسية الأخيرة، والتي أرادوا فيها، بحسب الروس، إسقاط حزب القيصر بوتين.
هل روسيا بعيدة عن رؤى "غوتيريش" للحرب الباردة، والتي هي في الأصل ساخنة جدًّا؟
إلى قراءة أخرى لاحقة ومكملة، مع الدعاء بأن يُجنِّب اللهُ العالمَ أهوال وشرور الحروب في الحال والاستقبال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة