اندفعت أحزاب الإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان الإرهابية، عقب ما سُمِّي بـ"ثورات الربيع العربي"، إلى المشاركة في أي انتخابات.
هذه المشاركة الكثيفة من تلك الجماعات جاءت تطلعا منها إلى السلطة والحكم، وقد وجدت قوى عالمية كبرى في هذه المشاركة حينها "تطويرا للديمقراطية" في العالم العربي، لا سيما أن تصعيد الإخوان وأذرعها قوبل بالثناء من قبل مراكز الدراسات والأبحاث في الغرب، بشقيه الأمريكي والأوروبي، لكن عقب وصول بعض هذه الأحزاب إلى السلطة في عدد من الدول العربية سرعان ما فشلت ولفظتها الشعوب، ثم تدفقت أسئلة كثيرة وقلقة تتجاوز قضية أهمية مشاركة هذه الجماعات في الانتخابات والسلطة، إلى الأهداف والغايات والممارسة العملية، على نحو: هل تقبل هذه الجماعات بقيم الديمقراطية أصلا كممارسة ومفاهيم وليس فقط كصندوق انتخابات للوصول إلى السلطة والحكم؟ وهل تعترف بالحقوق الشخصية للفرد-المواطن أم أنها تحاول تشكيل مجتمع ديني وفقا لقيمها الأيديولوجية؟ وهل ستسلم السلطة أو تقبل بنتائج الانتخابات إذا خسرت فيها؟
مراجعة بسيطة لتجارب شهدناها خلال الفترة الماضية تضعنا أمام معطيات عكسية تتعلق برفض هذه الجماعات نتائج الانتخابات حال خسارتها، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل أحدثها تجربة العراق، فرغم الإجماع على أن الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي شهدها العراق مؤخرا، كانت جيدة تنظيميا حسب معايير المراقبة والتقنيات والنزاهة، فإنه فور إعلان النتائج رفضت فصائل "الحشد الشعبي"، التابعة ولائيا لإيران، نتائج هذه الانتخابات، بسبب الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها، وعليه خرجت هذه الفصائل إلى الشارع في تهديد لأمن العراق واستقراره وتطلعاته.
ما جرى في العراق يُخشى تكراره في ليبيا، لا سيما أن جماعات الإخوان تلوّح بضرورة تأجيل الانتخابات الليبية المرتقبة، لقناعتها المسبقة بخسارتها فيها، كما حصل في انتخابات عام 2014، إذ وقتها لم تحصل إلا على 23 مقعدا في البرلمان من أصل 200 مقعد، وبسبب هذه الخسارة رفضت هذه الجماعات نتائج الانتخابات ولجأت إلى العنف، ما وضع ليبيا أمام مخاطر جسيمة.
اللافت في تجربة هذه الجماعات هو الارتماء الكامل في أحضان تركيا، الداعمة الأساسية لجماعة الإخوان الإرهابية في العالم العربي، ولعل الدعم المفتوح من قبل تركيا دفع بالإخوان والجماعات المرتبطة بها إلى الذهاب حتى النهاية في الانقلاب على العملية السياسية، وجاء ذلك في ليبيا عبر السيطرة المليشياوية على طرابلس عقب الانتخابات، وبدلا من أن تفتح الانتخاباتُ البابَ أمام الحل السياسي، أدخل رفضُ هذه الجماعات نتائجَ الانتخابات البلادَ في أزمة معقدة مفتوحة على كل الاحتمالات، رغم التطورات الإيجابية، التي شهدتها العملية السياسية والحوار الجاري بين الأطراف الليبية برعاية أممية.
في تجارب رفض أحزاب الإسلام السياسي نتائج الانتخابات يمكن الوقوف أيضا عند التجربة التركية، رغم اختلاف الظروف والآليات والبِنَى القانونية والدستورية، ولعل الجميع يتذكر حال خسارة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، سرعة لجوء الحزب إلى إعلان رفضه نتائج هذه الانتخابات والدفع بالهيئة العليا للانتخابات لإعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، وسبق ذلك رفض الحزب نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جرت عام 2015، واللجوء إلى انتخابات مبكرة، بعد أن فقد الحزب بها الأغلبية في البرلمان، ما شكّل مخالفة صريحة لقواعد الديمقراطية، التي جاء بفضلها الحزب إلى حكم تركيا في انتخابات عام 2002.
ولعل الفارق بين التجربة التركية والتجربتين العراقية والليبية هو قدرة حزب "العدالة والتنمية" التركي على اختراع آليات تبدو قانونية في ظاهرها لتعطيل نتائج الانتخابات عند خسارته، وذلك بحكم سيطرته على جميع مؤسسات الدولة.
دون شك، هذه التجارب وغيرها عن رفض أحزاب الإسلام السياسي خسارتها في أي انتخابات ومحاولة تحويل هذه الخسارة إلى فوز جديد، سواء بلَيّ ذراع الوسائل القانونية أو اللجوء إلى القوة، تؤكد حقيقة أن توجُّه هذه الجماعات إلى الانتخابات لم يكن نابعا من الإيمان والقناعة بالديمقراطية والتعددية السياسية والقبول بالآخر، بل تنبع قناعاتها من أن الانتخابات ليست سوى جسر أو أداة للوصول إلى السلطة وممارسة الحكم والتحكم بالمجتمع، ولعل ما يدعم هذه الحقيقة هو ممارسات هذه الجماعات في السلطة وإصرارها على فرض أيديولوجيتها على بنية الدولة والمجتمع، بعد أن ادعت طوال العقود الماضية المظلومية بسبب ما زعمته من قمع حكومي لها.
قراءة سريعة في سلوك هذه الجماعات عقب وصولها إلى السلطة تضعنا أمام جملة مؤشرات مهمة لفهم الأهداف، التي تسعى إليها من وراء المشاركة في الانتخابات للوصول إلى السلطة، ولعل أهمها:
1-فور وصول هذه الجماعات إلى السلطة، سرعان ما تبدأ عملية أدلجة تدريجية لبنية الدولة والمجتمع نحو أيديولوجيتها، وإحلال قوانين وقرارات جديدة تخصها، وتحل الجماعات الأيديولوجية المرتبطة بها تنظيميا محل القوى والأحزاب الأخرى في الدولة، ما يؤدي إلى القضاء على التنوع والتعددية السياسية في مجتمعات عُرفت بذلك منذ القدم.
2-إلغاء الطابع الوطني للدولة والمؤسسات الوطنية، لا سيما الجيش الرسمي، لصالح "أممية عابرة للحدود"، وبذا يصبح العامل الأيديولوجي سياسة ممارسة في الداخل، وعاملا محددا للسياسة الخارجية لدى هذه الجماعات، إذ تشكّل الجماعات أدواتِ الدولة، وما التنظيم الإرهابي الدولي للإخوان إلا الشكل الأمثل لهذه الجماعات في التعبير عن الرؤية والمفهوم والدور.
3-رغم ادعاء هذه الجماعات ابتعادها عن العنف، فإنها حال وصولها إلى السلطة لا تتوانى عن ممارسته بفجاجة، والتراجع عن شعارات التعددية الزائفة التي ساقتها سابقا، وقسر المجتمع في سياقات أيديولوجية تحت عناوين زائفة كـ"ممارسة الشريعة وتطبيقها"، وصولا إلى تطبيقات وممارسات مختلفة لا علاقة لها بقوانين الدولة، ولا حتى بالدين، الذي تستغله.
الثابت أن ممارسات أحزاب الإسلام السياسي أدت إلى كشف حقيقة دوافعها من وراء الوصول إلى السلطة والحكم، ما وضعها في أزمة علاقة بنيوية مع باقي المكونات السياسية والاجتماعية في البلدان، التي وُجدت بها، ولعل تجربة الإخوان في مصر خير دليل على ذلك، والتي توحي مؤشراتها بجلاء بانهيار هذه الجماعات وفقدانها شرعيتها ومشروعيتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة