أحد أهم نتائج هذه القمة أن القيادة السعودية نجحت في لمِّ الشمل العربي وإعادة الاصطفاف وترتيب الأولويات
كعادة القمم العربية، سبقت القمة التي استضافتها مدينة الدمام بالمملكة العربية السعودية مؤخراً، الكثير من التوقعات والرسائل والمطالبات والدعوات، وارتفع سقف التوقعات لدى البعض وانحسر لدى آخرين، وهذا أمر بديهي في ظل تعقيدات الواقع الاستراتيجي العربي، الذي أقرت القمة بالفعل بأنه يمر بـ "منطعفات خطرة"، وأن ما مر بعالمنا العربي من أحداث خلال السنوات الماضية قد تسبب في "إنهاك جسد الأمة الضعيف"، ولم تراوغ في توصيف الواقع أو تميل إلى تجميله.
لم تتباعد المسافات بين نتائج القمة العربية هذه المرة، وبين طموحات وتطلعات الشعوب العربية والمراقبين والمحللين الموضوعيين المدركين لتعقيدات البيئة والواقع الاستراتيجي الإقليمي والدولي وتشابكاته، فقد وضع القادة العرب بالفعل أولوياتهم في هذه القمة وفقاً لشواغل الشعوب العربية
أحد أهم نتائج هذه القمة أن القيادة السعودية نجحت في لمِّ الشمل العربي، وإعادة الاصطفاف وترتيب الأولويات، فجاءت تعبيراتها وردودها حازمة فيما يتعلق بالموقف السعودي تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام والقدس الشريف بشكل خاص، حيث بادر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى إطلاق اسم "قمة القدس" على أعمال القمة العربية التاسعة والعشرين، التي استضافتها المملكة، وجاءت كلماته في هذا الإطار مباشرة وموجهة وتحمل معاني عميقة لكل المزايدين على مواقف المملكة الشقيقة، والتزامها حيال القضية الفلسطينية والقدس الشريف، إذ قال "أود أن أعلن عن تسمية القمة الـ29 بقمة القدس، ليعلم القاصي والداني أن فلسطين وشعبها في وجدان العرب والمسلمين"، معلناً الحديث باسم العرب والمسلمين بحكم مكانة المملكة في أمتها العربية والإسلامية، ولم يكتف بذلك بل أعلن عن تبرع المملكة بمبلغ 150 مليون دولار أميركي لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، كما أعلن الملك سلمان عن تبرع السعودية بمبلغ 50 مليون دولار أميركي، لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ليتأكد للجميع أن القدس ستبقى عربية إسلامية، وفي وجدان كل العرب والمسلمين، وأن دعم الشعب الفلسطيني سيبقى التزاماً عربياً لا فكاك منه، هكذا أعلنتها القيادة السعودية مدوية في قمة الظهران.
كانت البدايات عملية واقعية في هذه القمة التي تخيل البعض أنها ستكون تكراراً لسيناريوهات سابقة في سجل القمم العربية، ولكن السعودية التي عادت بقوة إلى دائرة الفعل والتأثير، وقيادة العمل العربي والإسلامي المشترك مدعومة بحلفاء أقوياء في مقدمتهم مصر والإمارات، قد نجحت في تدشين مرحلة جديدة من العمل المشترك عبر بوابة قمة الظهران.
ولذلك ملامح عدة منها أن هذه القمة قد شهدت حضوراً هو الأكبر للقادة العرب منذ سنوات وعقود طويلة مضت، فقد شارك فيها 16 زعيماً ورئيساً من مجمل 22 قيادة عربية، وكان الغياب مبرراً ولأسباب قهرية في معظمه، عدا حالة أمير قطر الذي نجح بامتياز في عزل بلاده عن محطيها الإقليمي، العربي والخليجي، بممارساته وسلوكياته التي لم تعبأ يوماً بمصالح العرب وقضاياهم، بل كان نظامه أحد العابثين والمتآمرين على أمن العرب ونشر الفوضى والاضطرابات في ربوع منطقتنا!
لم تتباعد المسافات بين نتائج القمة العربية هذه المرة، وبين طموحات وتطلعات الشعوب العربية والمراقبين والمحللين الموضوعيين المدركين لتعقيدات البيئة والواقع الاستراتيجي الإقليمي والدولي وتشابكاته، فقد وضع القادة العرب بالفعل أولوياتهم في هذه القمة وفقاً لشواغل الشعوب العربية، فجاءت القضية الفلسطينية بكل مافيها من جوانب وأبعاد، قانونية وسياسية وحياتية، لتحتل صدارة الاهتمام وتتصدر "إعلان الظهران"، الذي أكد على مركزيتها ومحوريتها من دون لبس أو مواربة لإي نص تاريخي، "نؤكد مجدداً على مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة العربية جمعاء، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين"، ليعيد أيضاً تعريف وتموضع القدس في قلب الاهتمامات العربية، بعبارات واضحة ودقيقة بعيداً عن العبارات البروتوكولية وبمنأى عن اللغة "الخشبية" التي كثيراً ما يتهم البعض بها بيانات القمم العربية.
جاءت ديباجة البيان الختامي واضحة أيضاً فيما يتعلق بالأولويات، حيث أكدت على "أهمية تعزيز العمل العربي المشترك المبني على منهجية واضحة وأسس متينة"، ولم تكتف بطرح الإشكاليات بل طرحت أيضاً البدائل والحلول من خلال التأكيد على "أهمية السلام الشامل والدائم في الشرق الاوسط كخيار عربي استراتيجي تجسده مبادرة السلام العربية التي تنتهجها جميع الدول العربية في قمة بيروت في العام 2002م، والتي لا تزال تشكل الخطة الأكثر شمولية لمعالجة جميع قضايا الوضع النهائي، وفي مقدمتها قضية اللاجئين والتي توفر الأمن والقبول والسلام لإسرائيل مع جميع الدول العربية، ونؤكد على التزامنا بالمبادرة وعلى تمسكنا بجميع بنودها"، وهو تجديد للطرح العربي بشأن السلام والتسوية السياسية للقضية الفلسطينية وتذكير للمجتمع الدولي بأن هناك مبادرة عربية للسلام مطروحة منذ عام 2002، وهي مسألة بالغة الأهمية في هذا التوقيت كون المبادرة تستهدف توسيع نطاق رعاية عملية السلام، وإشراك الأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في رعاية مفاوضات التسوية، وهي نقطة في غاية الأهمية في ضوء التوقيت الراهن وملابسات الدور الأمريكي الذي انحاز تماماً، وبشكل سافر، للجانب الإسرائيلي، وبات من الصعب عليه التراجع أو العودة إلى مربع الوسيط الحقيقي في أي مفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فضلاً عن أن المبادرة ذاتها قائمة على حل عادل وشامل، يضمن اعتراف الدول العربية بإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود يونيو عام1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والتوصل لحل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين طبقاً لقرارات الشرعية الدولية، ما يعني أنها "الصفقة العادلة" التي يسعى إليها العرب جميعاً، وجاءت الإشارة إلى مبادرة السلام العربية وإحيائها بهذه القوة في البيان الختامي بمنزلة إشارة سياسية ذكية لتفادي الاصطدام المباشر بالموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل، وفي الوقت ذاته العمل على ضمان الحق الفلسطيني عبر التمسك بمشاركة أطراف دولية أخرى في رعاية عملية السلام.
جاءت الإشارات في البيان الختامي لمجمل القضايا والملفات العربية بحسب أولوياتها ووفق معالجات هادئة تطرح الحلول والبدائل ولا تكتفي بالإشارة للأزمات، حيث أكد على العمل على "إعادة إطلاق مفاوضات سلام فلسطينية إسرائيلية جادة وفاعلة تنهي حالة الفشل السياسي التي تمر بها القضية بسبب المواقف الإسرائيلية المتعنتة، آملين أن تتم المفاوضات وفق جدول زمني محدد لإنهاء الصراع على أساس حل الدولتين الذي يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 م وعاصمتها القدس الشرقية"، ووجه رسالة قوية لإيران بشأن ضرورة الحد من العربدة الإقليمية، ولاسيما دعم مليشيات الحوثي، وقدم القادة العرب دعماً قوياً للسعودية والبحرين في حماية وصون أمنهما. وتناول البيان كذلك الأزمة اليمنية مؤكداً على أهمية التسوية وفق مقررات الشرعية الدولية، موجهاً رسالة مهمة لمن يهمه الأمر من الأطراف الإقليمية، بأن العرب حريصون على "بناء علاقات طبيعية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الإيجابي مع دول الجوار العربي؛ بما يكفل إرساء دعائم الأمن والسلام والاستقرار، ودفع عجلة التنمية"، ومشيراً إلى ضرورة إيجاد حل سياسي في سوريا، مركزاً على الشعب السوري وتماسك الدولة السورية ووحدتها وسيادتها واستقلالها.
ركز البيان أيضاً على قضايا نوعية مهمة مثل مكافحة الإرهاب وتنظيمات التطرف، وضرورة الفصل بين الإسلام والإرهاب، وسيادة دولة الإمارات على جزرها الثلاث التي تحتلها إيران (طنب الكبرى وطنب الصغرى، وأبو موسى) وداعياً طهران للاستجابة لجهود تسوية هذه القضية سلمياً في تنوع يثري العمل العربي، ويشعر إيران بأن قضايا العرب واحدة وقيادتهم متوحدة.
قمة الظهران بداية مرحلة جديدة في العمل العربي المشترك، والتصدي للتهديدات التي تواجه الدول والشعوب العربية كافة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة