قريتنا في صعيد مصر تقع في حضن الجبل الغربي، حيث قبور آبائنا وأجدادنا، التي تعودنا على زيارتها كأنهم أحياء؛
لابد أن نطمئن عليهم، ونشرب معهم الشاي، مع فارق بسيط أن زيارتهم تقتصر على قراءة الفاتحة، وطمأنة الآباء على أحوال أبنائهم، ونقل الأخبار لهم خصوصا عن الذين تركوهم وهم خائفون عليهم.
وفي هذا الجبل هناك العديد من السباع أهمها الذئاب. أخي الأوسط حاتم؛ في إحدى زياراته، وجد جرو ذئب وليد فأخذه إلى النجع، ووضعه في حظيرة المواشي التي تقع وسط الأرض الزراعية، وقربه من نعجة فأرضعته، ثم صار يرضعه من لبنها حتى كبر، وبعد مدة شب الذئب الصغير، وصار واحدا من الكلاب التي تعيش داخل المزرعة، وفي أحد الأيام فوجئ أخي أن الذئب الصغير الرضيع رجع إلى طبعه، وهجم على إحدى النعاج والتهم فخذها حتى ماتت، فعالجه برصاصة في رأسه.
أخي لم يقرأ الشعر العربي الجاهلي، ولم يكمل دراسته، ولم يعرف القصة التاريخية التي تكررت بنفس السيناريو مع امرأة عربية قبل الإسلام، وحين حدث معها نفس الأمر كتبت أبياتا من الشعر حزنا على ما حدث من الذئب الرضيع مع النعجة التي أرضعته، فقالت:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي.. وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا.. فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طبــاع سـوء.. فـلا أدب يفـيد ولا حليب
هذه القصة تقودنا إلى محمد بن ظفر الصقلي، المتوفى 1172م هو أديب عربي كان مستشارا لحاكم صقلية (جنوب إيطاليا حاليا) العربي أبو القاسم بن علي القرشي؛ له كتاب في الحكمة السياسية عنوانه "سلوان المطاع في عدوان الطباع"؛ وهو نص بديع في الحكمة السياسية يقدمه بطريقة طريفة، ويوظف فيه قصص الحيوان والطير لتوصيل نصائحه لحاكم صقلية بطريقة ممتعه، جوهر فكرة الكتاب هو الحذر من الطباع السيئة للمسؤولين الذين يعتمد عليهم الحاكم في ذلك الوقت، وأنه مهما ظهر منهم من ولاء وطاعة لا ينبغي أن يغفل عن النظر بعمق في أمورهم، ولا ينبغي أن يأمن لعدوان الطباع السيئة الدفينة في نفوسهم.
وموضوع الطباع الدفينة في نفوس البشر موضوع عميق جداً أذكر منذ أكثر من 15 عاما حوارا مع زميلي في جامعة زايد في ذلك الوقت الأستاذ الدكتور علي الكنيسي أستاذ الفلسفة الإسلامية حين أثار سؤالا حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.."، والسؤال هنا لماذا فصل الرسول صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم بين الدين والأخلاق، على الرغم من أن الدين ذاته هو الأخلاق والقيم؟.. وبعد نقاش طويل وصلنا إلى أن الاخلاق، أو الخلق الوارد في الحديث الشريف هو الطبع الذي ربي الانسان عليه، وهو مسألة لا إرادية، يتم غرسها في نفس الإنسان في السنوات الخمس أو الست الأولى من عمره، وتتعلق بقيم تمثل البرنامج التشغيلي للإنسان، مثل القسوة والرحمة، والعنف والسلام، والكرم والبخل، والشجاعة والجبن، والأنانية والمشاركة والإيثار، والتسامح والتعصب.. إلخ، هذه القيم تدخل في عقل ونفس الانسان وتشكل وعيه، أما الدين فيأتي بعد ذلك من خلال التعليم والتلقين، ولذلك قد يكون الإنسان متدينا ولكنه بخيل أو أناني، أو قاس أو عنيف أو متعصب.. إلخ.
هناك أبحاث علمية كثيرة تتكلم عن توارث الطباع، وتربط بين طباع الإنسان وبين الجينات التي يحملها، ولكنه ربط بالتأكيد غير حتمي، فالإنسان كائن حر مختار، ومرن التكوين ومنفتح العقل، ولا يمكن أن يكون تفكيره وسلوكه محدد بصورة جبرية حتمية بما كان عليه أسلافه، ولكن بالتأكيد فإن التنشئة الأولى للإنسان تشكل طباعه أكثر من جيناته المتوارثة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة