على الرغم من أن التكنولوجيا يمكن أن تكون "نعمة"، إلا أنها في الوقت ذاته يمكن أن تضحى "نقمة"
في الثامن عشر من يونيو/حزيران عام 2015، أصدر البابا فرنسيس رسالة جديدة عامة تحت عنوان "كن مسبحاً"، والعنوان مستمد من روحانية الطبيعة عند القديس فرنسيس الأسيزي، ونشيده الصوفي القديم، بوصفه أشهر متصوف أوروبي مسيحي عاش في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي، ومن يقرأ الرسالة بعناية يجد فكراً روحياً مستنيراً وراء المعاني الأيكولوجية المرتبطة بقضايا البيئة وتغيرات المناخ في عالمنا المعاصر.
كالطبيب النطاسي الماهر والقادر على تشخيص حال العالم يتحدث العالم فرنسيس عن معنى ومبنى حماية البيئة التي في الأصل حماية للإنسان، وعنده أن رجال ونساء الإيمان مدعوون إلى الدفاع عن الحياة في كل مراحلها بالنزاهة والحريات الأساسية وحرية التعبير عن الرأي والفكر والدين. فهل يصل صوت البابا الأخضر للعالم عبر كتابه الجديد؟
"كن مسبحاً" ليست نشيداً وطنياً وثنياً لـ"الأم الأرض" المعروفة باسم "غايا"، بل هي نشيد المخلوقات الذي يتلوه الإنسان خليقة الله تسبيحاً للخالق. أحد الأسئلة التي تطرح ذاتها عند قارئ الرسالة: "هل هي قاصرة على البيئة في حد ذاتها؟".
لا يظن أحد أن هذا هو قصد الحبر الأعظم، إذ إن قراءة معمقة تؤكد أنه يتساءل حول معنى الحياة والهدف منها والعمل والكد وجدواهما، وجميعها أسئلة وجودية تقع البيئة في المنتصف منها.
تلفت الرسالة النظر إلى مختلف جوانب الأزمة البيئية الحالية من خلال الإصغاء لنتائج الأبحاث العلمية المتوافرة في العقود الأخيرة، لا سيما قضايا المياه وندرتها، ومسألة ما يعرف بـ"الدين الأيكولوجي" الحقيقي، والعلاقة بين دول الشمال الغنية، ودول الجنوب الفقيرة، وأزمة انعدام المسؤولية تجاه الشعوب الجائعة.
فهل البشر هم أصل الأزمة البيئية التي يعيشها عالمنا المعاصر؟
هذا ما يؤكده البابا فرنسيس، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا يمكن أن تكون "نعمة"، فإنها في الوقت ذاته يمكن أن تضحى "نقمة"، فهي تجعل الإنسان إن أراد متسلطاً على الطبيعة، مستغلاً لها، مدمرا إياها، حيث تستغل الشعوب الأضعف والأفقر من قبل ملاك تلك التكنولوجيا المتقدمة.
ما الجديد الذي يجعلنا نسترجع رسالة البابا فرنسيس الصادرة قبل أربعة أعوام مرة ثانية هذه الأيام؟
في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري سوف يصدر عن دار النشر الفاتيكانية كتاب جديد للحبر الروماني عنوانه "أمنا الأرض. قراءة مسيحية لتحدي البيئة"، والذي يتناول بالنقاش الإيماني والعقلاني والإنساني قبلهما الأزمة الإيكولوجية "البيئية" التي يعيشها عالمنا المعاصر، والتي هي قبل كل شيء إحدى نتائج هذه النظرة المريضة تجاه أنفسنا والآخرين والعالم والوقت الذي يمضي .
يذهب البابا فرنسيس في كتابه الجديد إلى أن نظرة البشرية الحالية المريضة لا تسمح لنا أن نرى أن كل شيء هو عطية من الله تعالى منحت للإنسانية لأنها محبوبة منه.
يشدد البابا فرنسيس على عمق الأزمة المعاصرة والتهديدات الخطيرة لحياة الكائن البشري على سطح الأرض، ويرجع ذلك إلى نوع الثقافة المسيطرة على العقول، ثقافة الامتلاك، امتلاك الأشياء والتسابق على الأخذ لا العطاء، ثقافة أن من يملك أكثر هو صاحب القيمة الأكبر، وهذا أمر مناقض لقيم التضحية والعطاء .
لماذا يليق بفرنسيس لقب البابا الأشد خضرة في تاريخ باباوات الكنيسة الكاثوليكية؟
منذ قداسه الافتتاحي بعد انتخابه، ظهر ميل فرنسيس للبيئة، فقد وجه نداءً لأن نكون "حماة للخليقة"، حماة للمخطط الإلهي المنقوش في الطبيعة، حماة لبعضنا بعضاً نحن الذين نتعايش نتشارك هذا الكوكب الصغير.
بدأ ومنذ أيامه الأولى كبابا وحبر أعظم، أنه متأثر إلى أبعد حد ومد بسميه "فرنسيس الإسيزى"، ففى لقائه مع رئيس الإكوادور في أبريل/نيسان من عام 2013، أوصى البابا الرئيس بالقول: "أهتم بالطبيعة اهتماماً كبيرا، فالقديس فرنسيس أراد ذلك أيضاً... وأكمل بقوله: "عادة ما يغفر الناس لبعضهم لكن الطبيعة لن تغفر لنا، فإن لم نهتم بالبيئة، فلا مجال لتلافى المصائب بعدها".
وفى يوليو/تموز من 2013 تحدث البابا فرنسيس في خطاب له في جامعة "موليز" الإيطالية حول مدى الضرر الذي ألحقته تصرفات الإنسان في البيئة، فعبر بالقول: "إنه التحدي الأكبر لعالمنا المعاصر، إنه تحدٍ لاهوتي بقدر ما هو سياسي، ودولي بنفس وضعه كتحدٍ محلي، إذ أنظر إلى العديد من الغابات التي قطعت عن بكرة أبيها، أصبحت بوراً إلى الأبد، ولكم في غابات الأمازون أكبر مثال.. هذه خطيئتنا، نحن ندمر الأرض. إن أكبر التحديات التي نواجهها هي تغيير ذواتنا وتصرفاتنا، لنتطور وفق ما يزيدها احتراماً للخليقة وخالقها".
ما الذي يدعو إليه البابا فرنسيس في كتابه الجديد كما في رسالته "كن مسبحا"؟
البابا يدعو إلى "التحول الجذري في نظرتنا إلى العالم"، وإلى "ارتداد كامل للإنسانية"، وأن علينا أن نقوم بنقاش جاد ومن دون أحكام مسبقة بين كل الأطراف المعنية من أجل إيجاد حل عملي"، ومن هنا يركز على الارتداد البيئي من خلال "إدراك الأساس المشترك لله، خالقنا وأبينا، وفهم التضامن بين الأخوة والأخوات في خلق الله...".
ويبقى السؤال الجوهري.. كيف لنا أن ننقذ أمنا الأرض؟
بعد صدور الرسالة الحبرية التي جاءت في 187 صفحة، نشر الكاتب الفرنسي "جان لويس دي لافيسير" عبر موقع "La Presse.ca" الإلكتروني مقالاً أشار فيه إلى أن البابا دافع عن الذين هم أكثر فقراً 51 مرة في رسالته، وربما كانت الخطوة الأولى التي يتوجب على حكومات العالم مجابهتها هي كارثة الاحتباس الحراري، فإخضاع السياسة للتكنولوجيا والمال أدى إلى فشل كل قمة عالمية حول البيئة، ولم يلتفت أحد لما ذكره الحبر الأعظم من وجوب استبدال الفحم والنفط بالطاقة القابلة للتجديد، ولا أقام أحد وزناً لما لفت إليه بابا روما من أن البلدان الثرية يجب أن تسدد دينها البيئي، وأنه يمكنها التضحية عبر خفض القليل من نفوذها، عطفاً على أن الشركات العالمية التي تسيطر على مياه العالم، تجاهلت صيحات البابا بالكلية.
في 8 سبتمبر/أيلول 2016 قام البابا فرنسيس بمداخلة أمام المشاركين في لقاء حول "أمريكا في حوار" الذي تنظمه جمعية الولايتين الأمريكيتين في روما ومعهد الحوار بين الأديان في "بيونس أيرس"، وبالتعاون مع المجلس الحبري للحوار بين الأديان.
فى مداخلته ركز البابا على أهمية أن يحارب المؤمنون وكل ذوي الإرادة الصالحة ضد "جروحات العالم الحالي"، وأشار إلى أن "محبة البيت المشترك واحترامه والمحافظة عليه"، تلك كانت الفكرة الأساسية التي تدور حولها رسالة "كن مسبحاً"، وذكر الحبر الأعظم بأن "للأديان دورا بالغ الأهمية في هذه المهمة من أجل تعزيز الرعاية واحترام البيئة، فالإيمان بالله يدفعنا إلى تمجيده في خليقته التي هي ثمرة حبه تجاهنا، ويدعونا إلى حماية الطبيعة".
كالطبيب النطاسي الماهر والقادر على تشخيص حال العالم يتحدث العالم فرنسيس عن معنى ومبنى حماية البيئة التي في الأصل حماية للإنسان، وعنده أن رجال ونساء الإيمان مدعوون إلى الدفاع عن الحياة في كل مراحلها بالنزاهة والحريات الأساسية وحرية التعبير عن الرأي والفكر والدين. فهل يصل صوت البابا الأخضر للعالم عبر كتابه الجديد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة