زيارة البابا فرنسيس إلى العراق.. رسائل ودلالات
أصداء واسعة محليا وعالميا، لزيارة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى العراق، والتي تبدأ الجمعة وتستمر لعدة أيام.
وأكد قداسة البابا فرنسيس أنه يقوم بالزيارة لإظهار التضامن مع المسيحيين بالعراق البالغ عددهم نحو 300 ألف شخص أي نحو خُمس عددهم قبل الغزو الأمريكي للعراق في 2003 وما تلاه من عنف الجماعات الإرهابية.
وفي هذا السياق يرى الكاتب والأكاديمي اللبناني رضوان السيد، أن زيارة البابا للعراق "رسالة للعيش المشترك والمواطنة والسلام"، وذلك في مقاله المنشور، الجمعة، بصحيفة "الشرق الأوسط".
وقال أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية في مقاله: تعود فكرة الزيارة الفاتيكانية للعراق إلى العام 2000. فقد كان البابا الأسبق يوحنا بولس شديد التأثر لما نزل بالشعب العراقي في حصار السنوات العشر. وكان البابا الأسبق يعرف أن في الدوائر العليا العالمية نقاشات بشأن إمكانية الإطباق على العراق. ولذلك ما رحّب الأمريكيون المحاصِرون بإرادة الزيارة، ولا تحمَّس لها -للعجب- أهل السلطة بالعراق آنذاك. أرادها البابا رسالة تضامن، وما كان أحدٌ معتبرٌ في القرار الدولي يريد ذلك!.
وعد يوحنا بولس
وزيارة البابا فرنسيس اليوم هي رسالة تضامُنٍ أيضاً، وهذه التضامنية لها معانٍ وجوانب متعددة. فالبابا يؤكد أنّ وعد يوحنا بولس لا يزال حاضراً في وعيه والتزامه، ويريد أن يفي به، رغم المحاذير والصعوبات. لكنه اليوم أكثر حاجةً وإلحاحاً بما لا يقاس. وذلك ليس بالنظر إلى الوضع العام بالعراق فقط؛ بل وبالنظر لما أصاب المسيحيين والإيزيديين بالعراق في زمن داعش، وما قبل وما بعد. الوحشية الداعشية لا يمكن تفسيرها ولا تعقُّلها.
وما كان أحدٌ قادراً ومتمكناً من الإسراع بالوعي الوطني والإنساني لِلأْمِ الجراح، وإعادة البناء الإنساني والعمراني، ولذلك تفاقمت الهجرة، وفقد المسيحيون وغيرهم من الأقليات القدرة على التلاؤم والتكيف مع الأوضاع الجديدة. وما كان الفاتيكان غائباً طوال هذه الفترة الخطيرة.. ما بقي شيءٌ إلاّ وحاوله البابا، وحاولته المؤسسات الكاثوليكية، والجهات المسيحية الأُخرى.
رمزيات الزيارة
وعندما يلتقي البابا بالمسيحيين في العراق في الأيام المقبلة، سيجد أن أعدادهم خلال عشرين عاماً انخفضت من مليون ونصف المليون إلى حوالى نصف المليون، وسيجد أن كثيرين من المسيحيين في سهل نينوى لا يزالون مهجَّرين، وأن كثيراً من الكنائس لا تزال مهدَّمة، وهناك تحفظات على استعمال الصالح منها حتى في بغداد.. لكن يأتي البابا الآن، والعراقيون وحكومتهم يتطلعون إليه بشوقٍ وأمل، وقد صارت للمسيحيين العراقيين المتعددي الطوائف قيادة متمثلة في بطريرك الكلدان الكاثوليك ساكو، الذي صار كاردينالاً، وهو عراقي كبير، ما رأيت أصبر ولا أصلب منه في الإيمان بالعيش المشترك وبإمكانيات المواطنة في العراق الجديد.
والجانب الثالث من معنى التضامن في زيارة البابا هو العراق وأحواله ومستقبله ومستقبل وحدته ودولته الوطنية. زيارة البابا مشاركة للعراقيين في آلامهم لما أصابهم من غزوٍ من الخارج، ومن اضطراباتٍ بالداخل. وهي احتفاءٌ بالنزوع العراقي البارز اليوم بعد ثورة الشباب للتغيير باتجاه الاستقلال والمواطنة والعيش المشترك والديمقراطية.
بيد أنّ زيارة البابا للعراق تحفل أيضاً بالرمزيات التي تهتم بها مؤسسة عريقة عقدية مثل الفاتيكان، وأولى تلك الرمزيات: الرمزية الإبراهيمية. فرغم التناكر التاريخي بين اليهودية والمسيحية، كان هناك دائماً نوعٌ من التشارك في الانتماء النسبي أو الروحي إلى إبراهيم أبي الأنبياء.
وكان الإسلام منذ عصره الأول مستبعداً عن هذه الدائرة "للديانات المحترمة" (!)، في الخمسينات من القرن الماضي، وفي أوساط المستشرق الكاثوليكي لويس ماسينيون وتلامذته ظهر هذا الاقتناع بضرورة الاعتراف بانتماء الإسلام للإبراهيمية، بحسب ما يقرر قرآنه وسائر مواريثه، وقد تم ذلك بالفعل في مجمع الفاتيكان الثاني (1962- 1965)، فانطلق بعده الحوار الإسلامي المسيحي بقوة.
وقد بلغ إحدى ذراه أيام البابا الأسبق يوحنا بولس حين صارت هذه القناعة ذات جوانب أخلاقية واستراتيجية، أما في عهد البابا فرنسيس ومنذ خطابه الأول عام 2013، فقد صار أمر العهد الإبراهيمي بين الديانات الثلاث قناعةً مطلقةً، ترتبت عليها عهود وعقود في زيارات إلى فلسطين ومصر والمغرب وأبوظبي، حيث بلغت ذروة تجلياتها في وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها البابا مع شيخ الأزهر مطلع العام 2019، وقد تطور الأمر لدى البابا بحيث اعتبر الأساس الإبراهيمي عهداً للأخوة الإنسانية استناداً إلى وحدة الخالق والخلْق.
الآن يزور البابا بالعراق أطلال مدينة أور، التي يقول العهد القديم إنّ حاضرتها وسهوبها كانت مسقط رأس إبراهيم ومرابع صباه ومنطلق رسالته باتجاه الهلال الخصيب ومصر. فالإبراهيمية التي عليها شواهد اقتناع برسالتها الإنسانية في الحاضر، لها تاريخ عريق، للصبر والحكمة والوحدة والسلام، وفي كل الأحوال الإيمان والثقة بخيرية الإنسان وانتصارها في شتى الظروف.
رسائل لقاء السيستاني
والمشهد الرمزي الثاني في الزيارة البابوية للعراق، يتمثل في زيارة المرجع السيستاني بالنجف، وزيارة ضريح الإمام علي.. كل الدول الإسلامية التي زارها البابا الجديد هي ذات غالبية سنية.
ومع شيخ شيوخ السنة أحمد الطيب، والعاهل المغربي الملك محمد السادس، وقّع وثائق وعهوداً. واليوم يكمل عهده مع المسلمين بالتلاقي على وثيقةٍ مع المرجع السيستاني أعلى مراجع الشيعة في العالم.. وهكذا فإنّ البابا يبعث برسالة للمسلمين أيضاً بضرورات التلاقي والتوحد في وجه الإرهاب والاضطراب واستخدام الدين في التنازع والاحتراب، والاستحثاث على إعادة بناء دولهم الوطنية، دول الحقوق والاستقلال والاستقرار بالمواطنة الكاملة والدولة القوية والعادلة.
أما الرسالة الثالثة ذات الأبعاد الرمزية فتتصل بالسلام في منطقة الشرق الأوسط. وللأسى والأسف؛ فإنّ الأمر لم يعد قاصراً على فلسطين والقدس وقد زارهما البابا عام 2014 وصلّى للسلام مروراً بالأردن. بل يشيع الاضطراب في سائر أنحاء المنطقة، وقد ظهرت مشكلاتٌ في دولها لا تقل خطورةً عن مشكلة الاحتلال في فلسطين أحياناً، وقد لا تكون لدى البابا فِرَقٌ للدبابات كما عيّر ستالين الفاتيكان في الأربعينيات. لكنّ البابا يملك قوةً معنويةً هائلة، نابعة من قوة المؤسسة ورمزيتها، ونابعة أيضاً من مرجعيتها الأخلاقية العالية. البابوية فعّالةٌ في العلاقات الدولية، وفي انتشارها العالمي، وفي دبلوماسيتها الهادئة وذات الأفق الشاسع.
الوضع المُزري للبنان
وهناك أخيراً ملاحظتان إحداهما خاصة إذا صح التعبير، والأخرى عامة. أما الملاحظة الخاصة فتتعلق بالوضع المُزري للبنان، وهو قلب المسيحية في الشرق منذ قرنٍ وأكثر. لقد كان لبنان بأوضاعه الدينية (بروز دور المسيحيين فيه) والثقافية والسياسية هو الواسطة بين الشرق والغرب، ومع الفاتيكان والعرب والمسلمين. لكنّ هذا الدور تضاءل عندما انحطّ وضع لبنان السياسي والاقتصادي والثقافي، وصارت فيه دولتان وجيشان، ويعم التعب والجوع سائر فئات الشعب اللبناني، وسط انعزالٍ عن العالم، الذي يزوره البابوات عادةً، لكنّ البابا فرنسيس لم يزره رغم الإشارة إلى مأساته في سائر خطاباته العامة.
أما الملاحظة العامة فتتصل بواجباتنا نحن عرباً ومسلمين. فــ"داعش" ليست تجربةً يمكن أن تُنسى بهذه السرعة، وكذلك "القاعدة"، وسائر الظواهر المشابهة والموجودة بفظائعها وإجرامها حتى اليوم. وبالطبع هناك إسلاموفوبيا في سائر القارات، وبالطبع بذلت المؤسسات الدينية وإدارات الدول جهوداً كبيرة خلال عقدين. لكنّ "التحول" باتجاه الإسلام الذي لا يقبل العنف ولا يمارسه في أي ظرفٍ كان، لا يزال يتطلب جهوداً هائلة أيضاً. وإذا كان البابا فرنسيس يؤمن بإمكانيات الإسلام والمسلمين، فلا أقلّ من أن نكونَ أهلاً لهذه الفرصة النادرة.
بدورها نوهت اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، إلى أن زيارة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، التاريخية إلى العراق، تعبر بوضوح عن التوجه الإنساني الذي يتبناه البابا ووهب حياته من أجله، ويأتي امتدادا عمليًا لمبادئ "وثيقة الأخوة الإنسانية" والرسالة البابوية "كلنا أخوة".
وأشارت إلى أن الزيارة مهمة للمنطقة العربية كونها تحمل العديد من رسائل التضامن مع ضحايا العنف والإرهاب، وتعزز قيم الأخوة والمواطنة في العراق والمنطقة، معتبرة أن ذلك ليس غريبا على رمز من رموز السلام، ورائد فذ يقود العالم للسير في طريق التعايش والسلام.
وحسب بيان صادر عن الفاتيكان في 8 فبراير/ شباط الماضي، سيلتقي البابا فرنسيس عند وصوله العراق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في مطار بغداد الدولي، ثم سيتوجه إلى القصر الرئاسي الذي سيحتضن مراسم الترحيب به، ويجتمع مع رئيس الجمهورية برهم صالح.
وأشار البيان إلى أن البابا سيتوجه بعد ذلك، إلى كاتدرائية "سيدة النجاة" في بغداد التي تعرضت عام 2010 لهجوم مسلح أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من المصلين المسيحيين، حيث سينظم فيها قداسا.
ويتجه البابا في 6 مارس/آذار إلى محافظة النجف جنوب بغداد للقاء المرجع الشيعي علي السيستاني، وبعده سيتجه إلى أور الأثرية في محافظة ذي قار، مسقط رأس النبي إبراهيم، ثم يعود إلى بغداد لحضور قداس احتفالي في كنيسة "مار يوسف" للكلدان.
ويصل البابا إلى أربيل في 7 مارس، حيث سيلتقي في مطار أربيل الدولي مع السلطات الدينية والحكومية في كردستان العراق، ويلتقي مع رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، ثم سيتوجه إلى الموصل، حيث سيقيم البابا الصلاة من أجل ضحايا الحرب في حوش البيعة (ساحة الكنيسة) قبل أن ينتقل إلى كنيسة "الطاهرة الكبرى" في قرة قوش بسهل نينوى، حيث سيتلو صلاة التبشير الملائكي.
وبعدها يعود البابا إلى أربيل للاحتفال بالقداس الإلهي في ملعب "فرانسو حريري"، ويختتم البابا زيارته إلى العراق في 8 مارس بحضور مراسم الوداع الرسمي في مطار بغداد قبل أن يغادر العراق عائدا إلى إيطاليا.