يحمل الوطن العربي في الكثير من دوله قضايا ومعضلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية عديدة ومعقدة، أخذت تتفاقم بعد أحداث الربيع العربي..
فهذه القضايا والمعضلات تشمل ضعف أداء التنمية والاستثمار، ومحدودية أداء الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والأمن، إلى جانب زيادة معدلات البطالة بين الشباب، والنمو السكاني غير المتناسب مع النمو الاقتصادي، وضعف التشريعات والخدمات لفئات اجتماعية خاصة مثل كبار السن وأصحاب الإعاقة وغيرهم، ناهيك عن تراجع الاستقرار السياسي في بعض الدول، وارتفاع نسب الفقر والفساد وضعف الحوكمة.
كما تواجه المنطقة العربية تحديات بيئية مثل شح المياه وتدهور الأراضي الزراعية، وضعف البنية التحتية في المناطق الريفية والحضرية، وغياب سياسات شاملة للتنمية المستدامة. كل هذه العوامل تجعل الحاجة إلى منظمة إقليمية عربية للتعاون والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ذات معايير وأدوات قياس، ضرورة ملحة لدعم جهود الدول في تحسين مستوى معيشة المواطنين/الشعوب العربية وتحقيق نمو اقتصادي وعدالة اجتماعية.
واقع عالمنا العربي يكشف عن أهمية وجود منظمة عربية للتعاون التنموي والاقتصادي تتجاوز ما هو متوفر عبر المنظمات العربية الحالية، والتي يجب أن تكون على غرار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
فبعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار لأوروبا، أُطلقت فكرة خطة مارشال، لتقديم مساعدات اقتصادية لأوروبا، ثم تأسست Organisation for European Economic Co‑operation (OEEC) عام 1948 لإدارة وتوزيع هذه المساعدات. وعبر النجاح للخطة، تحولت OEEC إلى OECD منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 1961 لتصبح منظمة دولية تضع معايير اقتصادية واجتماعية عالمية، وتقدم الخبرات والمشورة للدول نحو تعزيز الرفاهية وجودة الحياة.
تعتمد OECD على مجموعة من المعايير لقياس جودة الحياة والرفاه بعيدًا عن مجرد الاعتماد على مقياس الدخل أو الناتج المحلي، تشمل توفير سكن لائق، ودخل وفرص اقتصادية عادلة، مع وظائف مستقرة وعلاقات اجتماعية قوية، وتعليم عالي الجودة، وتوفر بيئة نظيفة ومستدامة، وأيضًا مشاركة مدنية فعالة، وصحة جيدة، ورضا عن الحياة، وسلامة وأمن على المستوى الفردي والجماعي، وتوازن بين العمل ومتطلبات الحياة الاجتماعية والبدنية. هذه المعايير تمكّن الدول من صياغة سياسات مدروسة لرفع مستوى رفاه مواطنيها بشكل شامل ومستدام.
استنادًا إلى تجربة OECD، يمكن تصور منظمة عربية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تحت اسم افتراضي مثل "المنظمة العربية للتنمية والازدهار الاقتصادي (AOEDP)"، تهدف إلى وضع سياسات واستراتيجيات عربية مشتركة للتنمية المستدامة. ولكن هناك اختلافا حول أولوية السياسات المراد تحقيقها، على سبيل المثال، أولاً، لابد من أن تركز هذه المنظمة على دعم الدولة الوطنية ذات السيادة، والتي تمتلك القدرة على تحقيق الأمن والعدالة وتعتبر هي المحرك الرئيسي والوحيد للسياسات عبر الحكومة.
مع تعزيز سيادة الدولة على الإقليم وبكون الحكومة هي الممثل القانوني والواقعي الوحيد للشعب، تعمل الحكومات على وضع قوانين وسياسات للاستثمار العربي العربي. كما أن المنظمة تضع أفضل المعايير والسياسات الممكن تطبيقها في تحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والأمن والعدالة، وتطوير الموارد البشرية من خلال برامج تدريبية وتعليمية متقدمة في المجالات التقنية والمهنية، فهذه الموارد البشرية ستكون لها أولوية العمل في الأقطار العربية.
كما يمكن للمنظمة إنشاء صندوق استثماري لدعم البعثات الدراسية والبحثية في العلوم التطبيقية والمهنية لتعزيز الابتكار وانتشار الكوادر المؤهلة لتعليم وصناعة موارد بشرية متتالية وتحقيق معرفة متراكمة ونوعية.
تهدف المنظمة المفترضة أيضًا إلى تطبيق معايير جودة الحياة كما هي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على المستوى العربي بما يتوافق مع الخصوصية الثقافية والاجتماعية لكل دولة، مع تبني أفضل الممارسات الدولية. ولابد من أن المنظمة تضع سياسات تعاونية لتحقيق أيدي عاملة ماهرة ذات قدرات عالية، مع أهمية تعزيز السياسات الداعمة للصناعات والزراعة في الوطن العربي، والذي يستورد الصناعات والمحاصيل الزراعية ويصدر الموارد الطبيعية بشكل كبير.
وكثيرة هي المشاريع التي يمكن تحقيقها من هذه المنظمة مثل الأمن المائي ومحاولة تنويع الاقتصاد، فنحن نشهد تكتلات اقتصادية ودولية في الصناعة والاستثمار والاعتماد المتبادل، فهذه المنظمة ستحقق الطريق إلى شعوب أكثر رضا في الحياة وأكثر عملا وتقدمًا.
ومن الأهمية أن يكون للمنظمة إطار عمل دؤوب وواضح، على سبيل المثال، المنظمة تُعقد فيها الاجتماعات على مستوى الوزراء بشكل أساسي مع أهمية الخبراء العرب والدوليين والمراكز البحثية المتخصصة لوضع السياسات والاستراتيجيات، وقياس مدى التطبيق، وتبادل الخبرات، وتنسيق الجهود الإقليمية لضمان تنفيذ السياسات والاستراتيجيات بنجاح.
فهذه المنظمة التنموية الافتراضية يمكن أن تكون في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تعد نموذجًا ومثالًا رائدًا للتنمية الشاملة في العالم العربي، حيث يمكن الاستفادة من خبراتها وتجاربها لتطبيق السياسات والمبادرات على نطاق أوسع في المنطقة. ومن خلال هذه المنظمة، يمكن تحقيق رؤى استراتيجية للعالم العربي نحو الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والارتقاء بجودة الحياة لجميع المواطنين/الشعوب في الأقطار العربية، مع تعزيز التكامل الإقليمي والتعاون العربي في مواجهة التحديات المشتركة، بما يحقق ازدهارًا مستدامًا ورفاهية شاملة للأجيال الحالية والمستقبلية.
في الخاتمة، وبين رشفات قهوتي، أتخيل من يهمس في أذني بأن هذه الفكرة والمنظمة ليست سوى صدى لصوت من الماضي، فالبعض سيرى في المقالة تكرارًا لأطر عربية سابقة، غير أنّ النظام العربي يكشف عن تفاعلات سياسية وأمنية وعقدية خاصة به تعكس هويتهُ وأدوارهُ الإقليمية والدولية، والتي بدورها تجعل التعاون مسارًا حتميًا لا خيارًا. ومن هنا تغدو المنظمة ضرورة لتحقيق التنمية وتلبية متطلبات الشعوب، وصياغة وعي عربي جديد يؤمن بأن المستقبل لن يُمنح للعرب ما لم يصنعوه بأيديهم وبفكرهم وبمشاريعهم المشتركة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة