من يتابع تصريحات الفريق عبدالفتاح البرهان يلاحظ مفارقة لافتة بين الخطاب السياسي المعلن والواقع الميداني الذي تعيشه السودان منذ أكثر من عام ونصف العام.
فالبرهان يشكر في كل مناسبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والأمير محمد بن سلمان ويكرر ادعاءه القبول والانخراط في المبادرة السعودية–الأمريكية، التي تدعو للحوار، لكنه يشترط في الوقت ذاته نزع سلاح قوات الدعم السريع بالكامل قبل بدء أي مفاوضات أو حوار! وهو شرط تعرف كل الأطراف أنه يعطّل أي عملية سياسية، إذ إن نزع السلاح يأتي عادة في المرحلة الأخيرة بعد اتفاق شامل وليس قبله، وهذا التناقض كان أحد أسباب تعثر جولات جدة التي تجاوزت سبع جلسات منذ 2023.
هذه المعادلة السياسية تبدو أقرب إلى التناقض المقصود في خطاب السلطة السودانية منها إلى استراتيجية واقعية يمكن البناء عليها، فكل الأطراف الدولية التي تعاملت مع الأزمة تعرف أن وقف إطلاق النار هو نقطة البدء لأي مفاوضات.
إلى جانب ذلك هناك تناقض لا يمكن تجاهله وهو أن طرفي الصراع يدعيان أنهما مع الشعب ويتحاربون من أجله وفي المقابل هناك من يقطع ويعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى ملايين النازحين الذين يواجهون المجاعة والانهيار الكامل للخدمات، فبين تعطيل قوافل الإغاثة، وعرقلة الوصول إلى مناطق الكارثة، واستهداف الطرق الحيوية، أصبح المدنيون هم الضحية الأولى.
وقد برز ذلك جلياً في الانتقادات الدولية الأخيرة، ومنها ما أشار إليه مسعد بولس في تغريدة أمس، عندما ندّد بـ هجوم طائرة مسيرة على شاحنة تابعة للأمم المتحدة كانت تحمل مساعدات إنسانية عاجلة، هذا الحادث يعكس عمق مأساة السودان اليوم، حيث تتحوّل المساعدات إلى جزء من أدوات الحرب، ويُترك الجائعون وحدهم في مواجهة الموت، بينما يتبادل الطرفان لغة الاتهامات ويعجزان عن حماية أبسط حقوق الإنسان السوداني.
أما التناقض الأكثر وضوحاً فيبرز في موقف البرهان فيما يتعلق بوجود الإخوان داخل الجيش السوداني وفي مركز اتخاذ القرار وإدارة الأزمة، فعلى الرغم من أن الوقائع الميدانية والتقارير الدولية ومحاضر لجان التحقيق السودانية نفسها تثبت وجود عناصر وقيادات مرتبطة بالحركة الإسلامية داخل القوات المسلحة منذ التسعينيات منذ عهد عمر البشير إلا أن البرهان يصرّ على إنكار هذا النفوذ!.
تقارير مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group)، ودراسات Carnegie Endowment، وتصريحات مسؤولين سودانيين سابقين، كلها أشارت بوضوح إلى أن التيار الإسلامي لعب دوراً في إعادة تشكيل وحدات داخل الجيش والاستخبارات خلال العقود الماضية، كما أن بعض القيادات العسكرية التي برزت بعد انقلاب 2021 ترتبط عضوياً أو تاريخياً بالحركة الإسلامية، بل إن لجنة “تفكيك التمكين” قبل الحرب كشفت شبكة واسعة من الضباط الذين تم تعيينهم خلال حكم البشير بناءً على انتماءات سياسية لا مهنية، ورغم كل ذلك، يرفض البرهان الاعتراف، في تناقض صارخ بين الوقائع الموثقة والخطاب العلني.
وفوق ذلك، يستمر الخطاب الرسمي في الزجّ باسم الإمارات في هذه الحرب، رغم أن الجميع يتفق أن هذه الحرب سودانية-سودانية وأنها بين الجيش وقوات الدعم السريع فقط، وهذا ما أكدته التقارير الدولية وأبرزها تقارير لجنة العقوبات في مجلس الأمن التي ذكرت أن الصراع داخلي بين أطراف سودانية، وأن التدخلات الخارجية متعددة ومتباينة وتشمل أطرافاً إقليمية ودولية مختلفة، ورغم كل ذلك يردد الخطاب السياسي اتهامات غير موثقة.
أما ما هو موثق فهو أن الإمارات أدانت الجرائم التي ارتكبها الطرفان ودعتهما للحوار، كما أن الإمارات شاركت في جميع المسارات الدبلوماسية التي سعت لوقف النار وكانت وما زالت تؤكد أن هذا الصراع لا يمكن أي يحسمه أي من الطرفين عسكريا، وما هو موثق أيضا أن الإمارات من أكثر الدول تقديماً للمساعدات الإنسانية.
تلك السلسلة من التناقضات في شروط الحوار، وفي الاتهامات الخارجية، وفي إنكار نفوذ الإخوان والزج بدول أخرى في الصراع تبين أن البرهان يعيش مرحلة ضغط غير مسبوقة، فالتطورات العسكرية على الأرض، والتحولات السياسية الإقليمية، وتراجع الدعم الدولي واتجاه ترامب نحو تصنيف الإخوان منظمة إرهابية، كلها عناصر تضيق الخناق على السلطة في الخرطوم، وفي ظل هذا المناخ، يظهر البرهان أكثر تناقضا وتوتراً في تصريحاته، وأكثر ميلاً إلى الهروب إلى الأمام بدلاً من مواجهة الأزمة.
لكن ما لا يدركه البرهان ورفاقه أن هذا الضغط قد يكون الفرصة الأخيرة لهم لترتيب أوراقهم وإعادة ضبط موقفهم السياسي والقبول من دون شروط مسبقة بمسار وقف النار والانخراط في حوار سوداني–سوداني شامل، فالحرب لا يمكن ان تستمر بلا أفق، والسودان بحاجة إلى مصارحة لا إلى إنكار، وإلى مسؤولية لا إلى اتهامات متناثرة، وإلا فإن الزمن سيتجاوز كل الأطراف، وسيكتب التاريخ أن فرص السلام ضاعت بسبب تناقضات رجل كان يمكنه أن ينقذ بلاده ولكنه اختار المماطلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة