تعودتُ في مناسبة عيد الاتحاد أن أكتب مقالة في هذه الذكرى العزيزة على كل إماراتي ومقيم على هذه الأرض الطيبة.
فذكرى الثاني من ديسمبر ليست مجرد تاريخ، بل هي مناسبة نستعيد فيها معاني النهضة المباركة التي غيّرت حياتنا وحلّقت بالوطن عالياً؛ ذلك المسار الذي قام على الخير، وتمسّك بالثوابت، وشق طريقه بثقة نحو الاستقرار والازدهار والمستقبل الزاهر.
وفي هذا العام، ونحن نحتفل بالذكرى الرابعة والخمسين للاتحاد، وجدتُ أنه من المناسب أن أكتب انطباعات شخصية عن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله. فهذا القائد الفذ يستحق الكثير من المراجعات والتحليلات المتعمقة لسيرة ثرية، ورؤية طموحة، ونظرة حكيمة صقلتها التجارب في أصعب الظروف. ولعل كتاب أخي الدكتور جمال سند السويدي حول سيرة الشيخ محمد بن زايد يظل مرجعاً مهماً في هذا السياق.
نحن من جيل الشيخ محمد بن زايد؛ جيل عرف الظروف الصعبة ما قبل الاتحاد، وعايش التحديات الأولى للدولة الفتية وأحلامها، وشارك في نهضتها وفي تثبيت موقعها الإقليمي والدولي بعد سنوات التأسيس المفعمة بالطموح والمحفوفة بالأخطار.
تعرفتُ إلى سموه للمرة الأولى في عام 1979 عبر أخي الأكبر سمير محمد قرقاش، الضابط في القوات المسلحة وخريج ساندهرست، والذي نقل لي تقديره العميق لمهنية الضابط الشاب وحكمته وروحه الوطنية الوثابة. ومع مرور السنوات، ورغم أن اللقاءات كانت متقطعة، إلا أن حضور الشيخ محمد بن زايد كان طاغياً عبر نشاطه العسكري والسياسي. وكان من الواضح لمن عرف زايد الأب أن هذا الشبل من معدن ذاك الأسد الجليل؛ فقد ظلّت علاقة الشيخ محمد بن زايد بوالده، رحمه الله، علاقة بنيوية عميقة تتجلى ملامحها في كل موقف وقرار، وفي العديد من رواياته وأحاديثه.
وفي تلك المرحلة أيضاً، جاءت علاقة سموه بالشيخ خليفة بن زايد، طيب الله ثراه، لتضيف بعداً آخر إلى تجربته المبكرة؛ فقد جمعتهما علاقة احترام وثقة، علاقة الأخ الأصغر بأخيه الأكبر، وكان مستشاره الأول الموثوق. كما عمّقت علاقة سموه بصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، عبر السنين والتجارب، أبعاد تجربته السياسية والإدارية، وأكسبتها بُعداً إنسانياً ووطنياً إضافياً.
وفي الوقت الذي كنتُ فيه منشغلاً بالدراسات العليا والتدريس الأكاديمي ثم في القطاع الخاص، كان الشيخ محمد بن زايد يشق طريقه بثبات في مسيرة قيادية ومهنية متميزة في الميدانين العسكري والسياسي، ليصبح أحد أهم الرجال من حول الشيخ زايد في أصعب اللحظات. وأدت اضطرابات المنطقة المتلاحقة إلى تسريع بروز شخصيته القيادية في ظل مدرسة زايد الحكيمة التي كانت بوصلة ثابتة لا تتزعزع.
ومع الغزو العراقي للكويت، أدرك الشيخ محمد بن زايد جوهرياً معنى التضامن الخليجي وأهمية وحدة أمن المنطقة. وشارك الضابط الشاب الجسور في عمليات التحرير شخصياً، ومنذ ذلك الوقت ترسخ لديه يقين ثابت بأن الإمارات ستقف دائماً مع أشقائها مهما كانت التجاذبات. ومن هنا بدأ مشروعه الكبير لتحديث القوات المسلحة الإماراتية، من بناء كفاءاتها الوطنية إلى تطوير قدراتها وتسليحها وتدريبها. فقد بنى جيشاً مهنياً حديثاً يحمي الوطن ومكتسباته، ويعكس شخصية قائد يعرف تفاصيل العسكرية وتقنياتها وأسسها، ولا يزال قارئاً نهماً يتابع آخر تطورات الجيوش وأنظمة التسليح وأفكار القيادة.
ثم جاء هجوم 11 سبتمبر 2001 ليشكّل محطة مهمة في تفكير سموه المحافظ والمتدين بطبيعته. فمن خلال المتابعة الفكرية والسياسية للأحداث، أدرك خطورة التطرف والتكفير على ديننا الحنيف، وخطر اختطافه من قبل فئة ضالة. وهو الذي يحرص دائماً على التوازن بين الأصالة والانفتاح، وبين التمسك بالجذور دون تزمت، والسعي إلى التحديث دون انسلاخ. ولعل كثيراً من قصصه وتجاربه التي يرويها للتوجيه هي نتاج تلك المرحلة التي صقلت وعيه السياسي والأمني.
ولم يكن ما سُمّي بالربيع العربي بعيداً عن هذه التجارب؛ فانزلاق اللحظة إلى قبضة تيارات الإسلام السياسي، واندفاع بعض القوى الدولية، خاصة الغربية، لدعمها باعتبارها «ثورة ديموقراطية تأخرت» كشف سريعاً خطأ الرهان وخطره. احترقت دول عربية في فوضى انهيار الدولة الوطنية وصعود التطرف والميليشيات. وفي تلك اللحظة المفصلية كان الشيخ محمد بن زايد، بصفته ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أحد أعمدة الاستقرار في المنطقة، واضحاً في موقفه، ثابتاً في رؤيته، وظهيراً يعتمد عليه الجار والصديق. ولعل عبور تلك المرحلة التاريخية دون أن تجرف المنطقة كان من أعظم التحديات التي واجهها وساهم في إدارتها بثبات وحنكة.
ومن خلال عملي في وزارة الخارجية مساعداً لأخي سمو الشيخ عبدالله بن زايد، لمستُ مباشرة مواقف سموه وتوجهاته الثابتة؛ فمصر والسعودية ركيزتان أساسيتان في رؤيته للأمن العربي، وما زلت أذكر كلمات الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، في تقديره الكبير للشيخ محمد بن زايد، ودوره في العديد من المفاصل الصعبة. وكان القرار بالوقوف مع السعودية في حرب اليمن قراراً بديهياً في قناعاته، وهو الذي يؤمن بأن أمن المنطقة كلٌ لا يتجزأ. وقد أدت القوات الإماراتية دوراً مشرفاً في تلك الحرب ضمن التحالف العربي الذي قادته الرياض. أما دعم مصر فكان خياراً استراتيجياً يعكس قناعة عروبية راسخة بأن مصر المزدهرة والمعتدلة ضرورة للنظام العربي.
ومع الحرب الإسرائيلية مع «حماس» وما تلاها من تداعيات إقليمية خطيرة، لعب سموه دوراً رئيسياً في الاتصالات السياسية والجهود الإنسانية. كانت أولويته وقف الحرب ومنع امتدادها، وتسخير القدرات الإماراتية في أكبر عملية إغاثية عربية في تاريخ القضية الفلسطينية، موظفاً في ذلك أيضاً «الاتفاق الإبراهيمي» لتسهيل المساعدات. وأسهمت الإمارات بـ 45 % من إجمالي المساعدات الدولية لسكان غزة. وعلى الصعيد السياسي، عملت الإمارات مع أشقائها العرب وشركائها الإقليميين لدعم الإجماع حول قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ولعبت دوراً مهماً في إجهاض محاولات ضمّ أراضٍ في الضفة الغربية. كان دوره مؤثراً، وإنْ لم يكن دائماً في واجهة الإعلام.
وفي امتداد لإرث آل نهيان في الخير، رسّخ الشيخ محمد بن زايد نهجاً إنسانياً عالمياً، خاصة في دعم الصحة ومكافحة الأوبئة. وخلال جائحة «كوفيد»، كانت الإمارات بقيادته من أوائل الدول في تقديم المساعدات وبناء المستشفيات وإجلاء المتضررين. كما أطلق مبادرات رائدة مثل «بلوغ الميل الأخير» بهدف القضاء والسيطرة على الأمراض المعدية التي يمكن الوقاية منها، ودعم استئصال شلل الأطفال، ليجعل من الإمارات شريكاً أساسياً في حماية صحة الإنسان حول العالم.
واليوم يشكّل الاستقلال الاستراتيجي جزءاً رئيسياً من نظرة الشيخ محمد بن زايد لعلاقات الإمارات الإقليمية والدولية؛ فأهمية القرار المستقل جوهرية، وبناء الجسور مع مختلف الدول أساسي، والعمل المشترك ضرورة في ضوء هذه القناعات.
وبعد توليه رئاسة دولة الإمارات في عام 2022، استمرت الدولة في صعودها الاستثنائي. وأرى أننا نعيش اليوم نهضة جديدة موازية لنهضتنا الأولى، مدفوعة برؤية الشيخ محمد بن زايد وإخوانه حكام الإمارات لتعزيز تنافسية الدولة وتطوير نموذج اقتصادي واجتماعي يواكب أكثر الدول تقدماً. فالبرنامج الفضائي، والطاقة النووية، والطاقة المتجددة، والاستثمارات الاستراتيجية، والشراكات التكنولوجية، وخاصة في الذكاء الاصطناعي، كلها مؤشرات على هذه النهضة الجديدة. وكلمات الشيخ محمد بن زايد واضحة في هذا الشأن؛ فتجنب تكرار الانهيار الاقتصادي الذي شهدته المنطقة نتيجة انهيار تجارة اللؤلؤ أوائل القرن الماضي، لن يتحقق إلا بتعميق وتنويع اقتصادنا واستثماراتنا وشراكاتنا.
محمد بن زايد شخصية قيادية فريدة: كريم، متواضع، منظم، حازم وعادل في موقعه كحاكم، وعطوف كإنسان، ومستمع جيّد، وحديثه هادئ وأفكاره منظمة. يجمع بين أصالة التربية ودروس الوالد المؤسس، وبين معاصرة مبنية على التجربة والاطلاع العميق. لا يحب المظاهر ولا يسعى للمديح، وطني حتى النخاع، ويحرص على أن تمتد رفاهية الإمارات إلى الأجيال المقبلة. وهو متحدث يأسر سامعيه رغم قلة ظهوره الإعلامي. وفي لقاءاته يغمر ضيوفه بالاهتمام، مما أتاح له بناء شبكة واسعة من العلاقات الشخصية مع قادة الدول الذين يقدِّرون صراحته الواضحة واللبقة. اهتماماته متعددة، تدعمها لغة الأرقام، من الطاقة والمياه والأمن الغذائي والصحة، ويبقى التعليم والتأهيل الأقرب إلى قلبه من واقع إيمانه بمركزية الإنسان في نجاح التنمية.
إن كتابة مقال واحد عن الشيخ محمد بن زايد لا تكفي. ولكن في هذه المناسبة الوطنية العزيزة، لعل هذه السطور شهادة حق في قائد استثنائي حمل الأمانة بثقة، وقاد الإمارات إلى آفاق جديدة، ولا يزال يرسم لدولتنا مساراً يليق بماضيها العريق ومستقبلها الواعد.
**نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة