انتهى مؤتمر المناخ، بعد أسبوعين من النقاش المحتدم بين المتفاوضين في قاعات مركز المؤتمرات بمدينة غلاسكو، التي شهدت شوارعها فعاليات ومسيرات داعية لإنقاذ كوكب الأرض.
وكانت نتائج المؤتمر كما لخّصها عنوان افتتاحية صحيفة "الفايننشال تايمز" اللندنية "أفضل من المتوقع وأقل من المأمول".
فقد رفعت قمة القادة، السابقة على انعقاد المؤتمر وما سبقها وصاحبها من دعوات العلماء المتخصصين المحذرة من عواقب الفشل، سقف الطموحات.
وما نجح فيه مؤتمر غلاسكو هو تأكيده هدف تخفيض درجة حرارة الأرض بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية عن متوسطات ما قبل الثورة الصناعية الأولى، بعدما كان الاتفاق في مؤتمر باريس مكتفياً بتخفيضها تحت درجتين مئويتين.
وهذا يتطلب أن تأتي كافة الدول المشاركة في خلال العام القادم بخطط تنفيذية أكثر فاعلية لتخفيض انبعاثات الكربون حتى عام 2030.
وهذا أمر ستكتنفه صعوبات كبيرة أسفرت عنها اللحظات الأخيرة للمؤتمر بتعذر التوصل لاتفاق بشأن مستقبل الفحم، مع تحفظ الصين والهند عن الالتزام بالتخلص من استخداماته والاكتفاء بتخفيض تدريجي له.
وعبّر رئيس المؤتمر، ألوك شارما، عن اعتذاره عن عدم التوصل إلى ما هو أفضل من ذلك بعبارة مختنقة الكلمات، واصفاً ما تحقق في المؤتمر في مجمله بـ"نصر هش"!
كما تم التعهد بالمراجعة السنوية الدورية للإجراءات التنفيذية لتحقيق أهداف اتفاق باريس، مع الالتزام بقواعد أكثر شفافية وإلزاماً في الإفصاح.
ورغم التعهدات، فإن العالم ليس أقرب اليوم من تحقيق هدف 1.5 درجة مئوية عما كان قبلها، فالإجراءات المطروحة لا تؤدي للتوصل إلى أهداف اتفاق باريس لعام 2015، وبافتراض الالتزام حرفياً بوعود تتحقق قبل عام 2030 والوفاء بتعهدات الحياد الصفري مع حلول عام 2050، فإن العالم في طريقه لمتوسط درجة حرارة يبلغ 1.8 درجة مئوية في أفضل الأحوال، وإن كنا فعلياً في وضع أقرب لبلوغ 2.4 درجة مئوية بكل ما يقترن بذلك من زيادة الأزمات البيئية بأكثر مما شهده العالم مؤخراً من عواصف وأعاصير وفيضانات حادة، فقد عانى العالم بالفعل مزيدا من هذه الأزمات في الوقت الراهن وهو لم يتجاوز بعد متوسط 1.1 درجة مئوية.
ويشكل الإعلان الأمريكي-الصيني المشترك بغلاسكو ليوم الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني انفراجاً محتملاً في التعجيل بخطوات التوافق مع اتفاق باريس، باعتبار الدولتين هما الأكبر إصداراً للانبعاثات الضارة بالمناخ.
وعند كتابة هذه السطور، فمن المرتقب أن يكون ملف المناخ على قائمة أولويات القمة الافتراضية بين الرئيس الصيني شي جينبينغ، والرئيس الأمريكي جو بايدن.
ورغم صعوبة الأمر، فإن محاور الاتفاق بشأنه أكبر نسبياً في تقديري من موضوعات أخرى محل نقاش في هذه القمة، خاصةً ذات الطبيعة الجيوسياسية أو المتعلقة بالتنافس الاقتصادي والتكنولوجي الحاد.
إذا كانت مقولة الحكيم الصيني كونفوشيوس صادقة في قوله بأنه "عندما تفقد الكلمات معناها يفقد الناس حريتهم"، فإن فقدان الأرقام لدلالتها لا تقل خطورة فيما يتعلق بالبيانات وشفافيتها عما يتم التعهد به من إجراءات وتوافق مع أولويات حماية الأرض ومن عليها.
وفي غياب مؤشرات دولية معيارية وطرق للتقييم والمراجعة والتدقيق، تنتشر المعلومات المضللة والتعهدات التي لا تظهر تكاليف تنفيذها، حتى وصلنا إلى الحالة التي وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بـ"فائض من الوعود وعجز في التنفيذ"، وجعلت جموع المحتشدين في غلاسكو تُردد عما يجري في قاعات المؤتمرات بأنها مجرد ثرثرة.
فهناك توجس مشروع من هذه الإعلانات المتوالية، بما في ذلك من الدول والشركات والمؤسسات المالية عن التزامات باتت توصف بأنها نوع من "الغسل الأخضر" لتضليل المجتمع، ومن هنا تأتي أهمية قرار الأمين العام، الذي ضمنه في كلمته بقمة المناخ، بتشكيل لجنة خبراء لتضع معايير واضحة لقياس الالتزامات المعلنة عن الحياد الكربوني وإجراءات تحقيقه.
واقترح أن تكون على مستوى كل دولة لجنة مناظرة لمتابعة تطبيق هذه المعايير وتنفيذ التعهدات على المستوى الوطني.
في كلمة شاركت بها في غلاسكو الأسبوع الماضي، أوضحت أن أرقام التمويل ليست أفضل حالاً من أرقام السيطرة على الانبعاثات والتعهدات.
وفي إشارة إلى مبدأ الاقتصادي باريتو، أو ما يعرف بقاعدة 80-20، فمجموعة الدول العشرين تمثل 80 في المائة من الاقتصاد العالمي، وهي مسؤولة أيضاً عن 80 في المائة من الانبعاثات الضارة بالمناخ، ولكنك لا تراها مجتمعة توفر ذات المقدار من الإسهام في تكلفة علاج المشكلات الناجمة عنها.
ومنذ أعلن في 2009 بكوبنهاغن عن توفير 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية، فإن ثلاث دول فقط من 23، هي ألمانيا والنرويج والسويد، قد أوفت بإسهاماتها.
وفي حين أعلنت منظمة "أوكسفام" أن هناك فجوة تعادل 80 في المائة من تعهدات التمويل المذكورة، تجد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تذكر أنه في عام 2019، قبل الجائحة، وصلت أرقام التمويل إلى 79.6 مليار دولار، وأن الفجوة في حدود 20 في المائة فقط!
وتشير الأرقام إلى أن نصيب الدول النامية من التمويل الموجه للتكيف مع الآثار الضارة للمناخ لم يتجاوز 20 مليار دولار في عام 2019، ولكن المعهد الدولي للبيئة والتنمية في لندن أكد مؤخراً أن في محاولاته لتتبع ما أنفق على التكيف مع آثار المناخ في 46 دولة من الأقل دخلاً لم يستطع رصد أكثر من 6 مليارات دولار فقط.
هذا كله يؤكد أهمية وضع معايير لمتابعة التمويل الموجه لتغيرات المناخ، سواء لأغراض التخفيف أو التكيف أو التعامل مع الأضرار والخسائر التي تتكبدها الدول النامية من تبعات أزمة لم تتسبب في حدوثها، فالدول الأقل إسهاماً في الانبعاثات الضارة هي من الأكثر تضرراً.
ومع المطالبة بالوفاء بتعهدات كوبنهاغن، المتعلقة بالمائة مليار دولار وزيادتها مستقبلاً، ومع هذه التعهدات السخية من مؤسسات مالية، بلغت 130 تريليون دولار من الأصول المالية وفقاً لما أعلنه "تحالف غلاسكو المالي".
وهذا الرقم رغم ضخامته لا يعني تحوله تلقائياً من أصول مالية لتدفقات استثمارية، فوفقاً لوكالة الطاقة الدولية يحتاج العالم إلى استثمارات سنوية تقدر بنحو 4 تريليونات في مجالات الطاقة وحدها وذلك حتى عام 2050، وهو مكون مهم وحيوي، وإن كان ليس وحيداً لتحقيق أهداف المناخ.
وهدف العمل المناخي، رغم أهميته، ليس إلا هدفاً واحداً من سبعة عشر هدفاً للتنمية المستدامة.
يحتاج العالم إلى مرصد مالي معتمد يتابع التعهدات المالية ومدى الوفاء بها، كما يتطلب الأمر قيام مؤسسات الرقابة المالية بمتابعة قواعد الإفصاح والالتزام بمقتضياتها.
بالإعلان الأسبوع الماضي في غلاسكو أن مصر سترأس القمة القادمة للمناخ وستستضيف مؤتمرها، بدأ العد التنازلي لعمل كبير على أربعة مستويات خلال الشهور القادمة:
أولاً: المستوى العالمي، وذلك فيما يتعلق بتنفيذ التزامات تخفيف الانبعاثات الضارة والتكيف مع تغيرات المناخ وإدارة التحول، وكذلك يقع ملف التمويل في مقدمة الأولويات، فلا يوجد إجراء واحد دون تكلفة وعائد.
وأؤكد أهمية التركيز على الاستثمارات، لا القروض، في التمويل.. فليس من العدل في شيء أن تستدين الدول النامية الأفقر لعلاج أضرار تسببت فيها تاريخياً وحالياً دول متقدمة وأخرى نامية.
فالاستثمارات، لا الديون، والتعويض الكافي عن الضرر، لا الهبات المتناثرة، جنباً إلى جنب مع التعاون التكنولوجي يجب أن تشكل معاً السبيل للمسار الدولي للعمل المناخي في المستقبل.
ثانيا: المستوى الإقليمي، باعتبار أن الدورة القادمة، التي تستضيفها مصر، دورة أفريقية، فيجب البحث في المشروعات ذات العائد المشترك على القارة السمراء، بالتركيز على الاستثمار في تمويل المجالات الحيوية لتغير المناخ، وفي إطار تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وقد قدمت جنوب أفريقيا مثالاً جيداً بالتوصل إلى اتفاق في غلاسكو تحت عنوان "المشاركة من أجل التحول العادل للطاقة"، بحصولها على تمويل يقدر بنحو 8.5 مليار دولار على مدار خمس سنوات.. يتضمن الاتفاق ثلاثة أهداف بالتخارج من الفحم، وتوفير طاقة بديلة نظيفة، ومساندة للمجتمعات المعتمدة على الفحم بإيجاد فرص عمل جديدة.
مثل هذه المبادرات، التي يجب أن تصاغ وفقاً لأولويات كل دولة واحتياجاتها، يمكن الاستئناس بها في تطوير مبادرات مماثلة في القارة السمراء، سواء في مجالات التخفيف أو التكيف أو إدارة التحول العادل للتوافق مع متطلبات مواجهة تغيرات المناخ.
ثالثاً: على المستوى الوطني، بأن يستفاد من جهود الاستعدادات لاستضافة القمة في مصر كدفعة لسياسات التنمية والإصلاحات الهيكلية والتحول الرقمي، وإلقاء الضوء على جذب الاستثمارات في مجالات رفع الإنتاجية والتنافسية والابتكار والتطوير.
رابعاً: على المستوى المحلي، من خلال المشاركة في تنفيذ مشروعات مبادرة "حياة كريمة" واستعراض تطورها وما يتم في تجربتها المتميزة من استثمارات ضخمة في رفع أداء رأس المال البشري والبنية الأساسية والتكنولوجية، جنباً إلى جنب مع مشروعات ومعايير الاستدامة، تعزز منها وتدعم توافقها البيئي والمناخي.
فهذه المبادرة هي من الأكبر طموحاً لتوطين التنمية المستدامة على مستوى العالم، حيث يستفيد منها بشكل مباشر نحو 60 في المائة من المواطنين الذين يعيشون في ريف مصر.
وستشكل هذه المبادرة بنجاحها نموذجاً يُستفاد منه عملياً في البلدان النامية لتأكيد أن النصر الصُّلب، لا الهش، في مواجهة تغيرات المناخ سيكون بدمج المشروعات وتمويلها في إطار متكامل للتنمية المستدامة لنفع عموم الناس بأجيالهم في الحاضر والمستقبل.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة