يكاد يكون علم النفس هو العلم الوحيد الذي ما زال وفيًّا لأمه (الفلسفة)، وما زال يشتاق لحضنها، إلى درجة أنه كان آخر العلوم التي انفصلت عن الفلسفة واستقلت عنها
يكاد يكون علم النفس هو العلم الوحيد الذي ما زال وفيًّا لأمه (الفلسفة)، وما زال يشتاق لحضنها، إلى درجة أنه كان آخر العلوم التي انفصلت عن الفلسفة واستقلت عنها بعد أن طوَّر لنفسه أدوات ووسائل علمية كسائر العلوم، وذلك ناتج عن العلاقة الاستثنائية بين علم النفس والفلسفة، حيث نجد أن بينهما تشابها في الكثير من المسائل والموضوعات التي يهتمان بها، بدءاً من الباعث الأول للفلسفة وهي الدهشة، وانتهاءً بقضية (نظرية المعرفة)، ليس ذلك فحسب! وإنما تكاد تكون الكثير من القضايا الفلسفية ناتجة في أصلها عن الباعث النفسي، أي أنه ربما يمكننا القول بأن علم النفس هو الذي أنتج الكثير من النظريات والمذاهب الفلسفية، لذا نجد أن ديفيد هيوم كان يرى أن علم النفس هو الممثل الحقيقي للفلسفة، وأنه يجب أن يكون هو البوَّابة الرئيسية لدخول عالم الفلسفة، ولا أدل على ذلك من عبارة سقراط: (اعرف نفسك بنفسك) التي جعلها اللبنة الأولى في بناء فلسفته، كذلك ديكارت الذي بنى فلسفته على عبارة (أنا أفكر إذاً أنا موجود) حيث تناقش هذه العبارة الوعي، ومن المعروف أن الوعي من أهم الموضوعات التي يهتم بها علم النفس عموماً، وعلم النفس المعرفي والعصبي خصوصاً، سواء الوعي بالذات (كما كان يقصد ديكارت بعبارته) أو الوعي بشكل عام.
نظراً للعلاقة الاستثنائية بين الفلسفة وعلم النفس كما ذكرت آنفاً، فإنني أرى أنه من مصلحة علم النفس والعلوم الإنسانية عموماً القبول بالتأملات الفلسفية وعدم رفضها كليًّا، نظراً لأن الفصل الكلي بين الفلسفة وعلم النفس سيجعل من علم النفس علماً جافًّا (كالجسد بلا روح)
وكذلك لو نظرنا في جملة تعريفات الفلسفة سنجد معظمها يدور حول استخدام العقل، من ذلك تعريف جون لوك للفلسفة بأنها: "دراسة العقل البشري"، نجده يتشابه مع تعريف علم النفس الحديث: "العلم المختص بدراسة السلوك البشري والعمليات العقلية". وإن كانت الفلسفة هي "علم السعادة" كما يرى ديوجانس، فإن موضوع السعادة من صميم علم النفس (علم النفس الإيجابي على وجه التحديد). ونظراً لتلك الأهمية لعلم النفس والمكانة التي يحتلها فلسفيًّا وعلميًّا ومدى نفعه وإسهاماته للبشرية عموماً فإننا نجد ابن باجة يصفه بأنه أشرف العلوم! من هنا تقع الأمانة العظمى على المختصين في هذا العلم بحمايته من الدخلاء عليه والتحذير من أصحاب العلوم الزائفة (الطاقة والبرمجة اللغوية العصبية) وغيرها من العلوم الكاذبة والتي تستند إلى الإيحاء والوهم بهدف الربح المادي، والتي لا يوجد أي أدلة أو دراسات أو بحوث علمية تدعمها أو تؤيدها.
ونظراً للعلاقة الاستثنائية بين الفلسفة وعلم النفس كما ذكرت آنفاً، فإنني أرى أنه من مصلحة علم النفس والعلوم الإنسانية عموماً القبول بالتأملات الفلسفية وعدم رفضها كليًّا، نظراً لأن الفصل الكلي بين الفلسفة وعلم النفس سيجعل من علم النفس علماً جافًّا (كالجسد بلا روح) وبالتالي سيفقد علم النفس قيمته ورقيَّه اللذين يستمدها من قيمة وكرامة الإنسان الذي تحكمه عدة متغيرات وظروف بيئية مختلفة ومعقدة، بالإضافة إلى أن الكثير من النظريات النفسية وُلدت من رحم الفلسفة وبالأخص نظريات الشخصية، لذا نجد د.باربرا إنجلر تذكر في كتابها (مدخل إلى نظريات الشخصية): "إن نظريات الشخصية يجب النظر إليها كجانب فلسفي وعلمي وأدبي، وذلك لإنصاف المدى العريض من الإمكانات والوجود الإنساني".
ولا يمكن أن نتحدث عن تلك المسائل (فلسفة العلوم) دون أن نشير إلى الفيلسوف والعالم العظيم كارل بوبر الذي يعتبره البعض فيلسوف المنهج العلمي الأول، وذلك لإسهامه العظيم في حقل (فلسفة العلوم) من خلال رفضه لمنطق التبرير الاستقرائي وإحلال منطق الكشف العلمي المستند إلى التفنيد والنقد بدلاً عنه، والذي يضمن تقدم العلم والمعرفة (الصيرورة)، ونذكر رأيه فيما يخص علم النفس، حيث يرى بوبر بأن النظريات الإنسانية -ومن ضمنها علم النفس- ليست دقيقة تماماً، معللاً لذلك بأن أي علم لا تخضع نظرياته للكشف العلمي والتفنيد فإنه يُعد من جملة العلوم الزائفة، وأن تلك النظريات ما هي إلا فرضيات تجد ما يؤيدها من تجارب مختلفة.
ومن الطريف في الأمر أن نعلم أن بوبر حاصل على درجة الدكتوراه في مناهج علم النفس الإدراكي!
ورغم كل ذلك يبقى المنهج العلمي الحديث هو أفضل الوسائل والأدوات للوصول إلى المعرفة وتحصيلها ولا يوجد أكثر ما يُعتمد عليه منه، خصوصاً أننا ما زلنا نفتقد إلى منهج يمكن الاعتماد عليه مطلقاً في التوصل إلى الحقائق وإثباتها, رغم ما يدور حول المنهج العلمي الحديث من بعض الإشكالات من تعدد المناهج الناتج بدوره عن اختلاف العلوم وموضوعاتها، إلا أن تلك المناهج قد أسهمت في حل الكثير من المشكلات؛ كلٍّ بحسب موضوعه ودراسته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة