ما بعد سوتشي.. بوتين يرسم خطوط التماس لأردوغان
ثمة مخاوف روسية تتمحور بشكل خاص حول الإرهابيين الذين يمكن أن يمثلوا مصدر خطر بعد فرارهم عناصر من تنظيم "داعش" من معسكرات الأكراد
أدت الاستحقاقات العسكرية والسياسية التي أفرزها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من مناطق قرب الشريط الحدودي في شمال شرقي سوريا إلى تغيير قواعد اللعبة شرق الفرات، وفتحت المجال كي تقدم موسكو نفسها لاعبا أساسيا بين دمشق وأنقرة وبين دمشق والأكراد، ووسيطا بين الأطراف المتصارعة للوصول إلى ترتيبات المشهد السوري.
والواقع أن موسكو تعد أكثر الرابحين من سياسة الرئيس أردوغان في الشرق الأوسط، فكل سلوك خاطئ تتركه أنقرة يستثمره الروس بمكسب وبثمن قليل. كما كشفت زيارة الرئيس بوتين للمنطقة، قبل أيام، عن تصاعد موقع روسيا في الإقليم؛ حيث وقعت موسكو عقوداً واتفاقيات مع أكبر الأسواق العربية (الرياض وأبوظبي) في مجالات متعددة.
في السياق العام، تبدو موسكو الطرف القادر على رسم خطوط التماس بين الأطراف المتنازعة في المشهد السوري، لذا ذهب أردوغان إلى سوتشي، وهو يدرك أن إقامة منطقة آمنة لا يمكن أن تتم بعيداً عن التفاهمات مع موسكو.
خلافات متعددة
قبل بدء قمة بوتين وأردوغان في 22 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أعادت موسكو التأكيد على أن العملية العسكرية التركية في الشمال السوري تثير قلقاً كبيراً، كما جددت موسكو التأكيد على ضرورة عدم السماح بتأثير التوغل التركي على مسار التسوية السياسية في سوريا.
والأرجح أن ثمة تباينا بين أنقرة وموسكو حول حدود عملية "نبع السلام"، والمنطقة الآمنة التي يطمح النظام في تركيا إلى فرضها على طول الحدود مع سوريا. فبينما ترى موسكو إقامة منطقة عازلة بعمق لا يزيد عرضه على 10 كيلومترات، يصر أردوغان على 30 كيلومترا. في المقابل تتباين رؤية البلدين حول بسط السيادة على المنطقة الآمنة؛ إذ تصر تركيا على إدارتها منفردة، لكن موسكو تدعو إلى ضرورة بسط سيطرة حكومة دمشق على المناطق الحدودية، خاصة بعدما دخلت منبج وعين العرب "كوباني". كما أن ثمة قناعة روسية بأن تحقيق الاستقرار على المدى الطويل يظل مشروطاً باحترام وسيادة سوريا، وهو ما يعني ضرورة نقل السيطرة على جميع الأراضي السورية إلى حكومة الأسد، بما فيها منطقة درع الفرات التي دخلتها تركيا في أغسطس/آب 2016، وعفرين التي سيطرت عليها في يناير/كانون الثاني 2018.
لا تقتصر الخلافات على ما سبق، فثمة مخاوف روسية تتمحور بشكل خاص حول الإرهابيين الذين يمكن أن يمثلوا مصدر خطر بعد فرارهم عناصر من تنظيم "داعش" من المعسكرات التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية، واستهدفتها بعض الغارات التركية.
وعلى الرغم من أن تركيا تتبادل مصالح متباينة مع موسكو في سوريا، فإن الرئيس أردوغان يعي ويدرك أهمية التنسيق مع موسكو بعد تجميد عملية "نبع السلام"، خاصة أن روسيا أصبحت الفاعل الوحيد والحقيقي في المنطقة، إضافة إلى إعادة سيطرة القوات السورية على الحدود مع تركيا بعد تفاهمات مع الأكراد في الأيام الماضية، كما أصبحت دمشق قادرة، ولأول مرة ومعها أيضا روسيا، على الوصول لمصادر النفط الهائلة في المنطقة.
على صعيد ذي شأن، فإن أردوغان يعلم أن بوتين يمثل نقطة استناد استراتيجية وورقة ضاغطة من خلال نفوذه الواسع على نظام الأسد، ناهيك عن أهمية الدوريات العسكرية الروسية في المنطقة، لمنع حدوث اصطدام بين الأتراك والسوريين بشكل خطير.
نجاحات روسية
تركزت قمة بوتين أردوغان على عدد من القضايا المهمة، ونجحت موسكو في تحقيق عدة أهداف:
محاربة الإرهاب: سعت موسكو إلى دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدماً بمحاربة الإرهاب الدولي، انطلاقا من حرص موسكو، على غرار الغربيين، على تفادي عودة "الجهاديين" في سوريا، لا سيما أن أنقرة اتجهت -بحسب تقارير دولية- إلى تأسيس علاقات مع الفاعلين من غير الدول أو دعم بعض التنظيمات المسلحة، ويدلل على ذلك ما كشفت عنه السلطات القضائية الإيطالية في 7 سبتمبر الماضي فيما يتعلق بخلية إرهابية تقوم بتمرير أموال عبر تركيا لدعم أنشطة مرتبطة بـ"جبهة النصرة"، الفرع السوري سابقاً لتنظيم "القاعدة" في سوريا، قبل تغيير اسمها إلى "هيئة تحرير الشام".
إنهاء العمليات العسكرية: ركزت قمة سوتشي باتجاه تسريع إنهاء عملية "نبع السلام"، وعدم توسيع رقعتها، بالتوازي مع تنشيط التحرك لشغل الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من مناطق الشمال السوري. وسعت موسكو خلال قمة سوتشي إلى تحقيق اختراق يتمثل في إعلان رؤية مشتركة مع أنقرة للتسوية في منطقة الشمال تقوم على بسط سيطرة الحكومة السورية على مناطق الحدود، مع وضع آلية مشتركة لمراقبة المنطقة العازلة بشكل يضمن المصالح الأمنية التركية، ويستند في الوقت ذاته إلى احترام وحدة الأراضي السورية.
تعزيز الحوار بين أنقرة ودمشق: تمكن الرئيس بوتين من الضغط على نظيره التركي لحلحلة العلاقة مع دمشق، وهو ما فسّره وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بالتأكيد على استمرار مواصلة موسكو جهودها لتوسيع قنوات الحوار الأمني والعسكري بين أنقرة ودمشق.
وتضغط موسكو على أنقرة لترطيب أجواء العلاقة مع النظام السوري، وظهر ذلك في دعوة أنقرة إلى ضرورة التعاون مع دمشق في إطار اتفاقية "آضنة" التركية السورية التي تعود لعام 1998، التي تم توقيعها للتعاون في مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني. كما شجّع بوتين تركيا، في وقت سابق، على استخدام نفس الاتفاقية أو إجراء تعديل عليها للتعاون مع سوريا لمحاربة العدو الكردي المشترك.
ويسمح اتفاق "آضنة" للجيش التركي بملاحقة الإرهابيين بعمق 5 كيلومترات، واقترحت موسكو على أردوغان زيادة عمق التوغل من 5 إلى 10 كم وانتشار الجيش السوري على الحدود مقابل مفاوضات سياسية بين البلدين.
ترسيم خطوط التماس: باتت موسكو الورقة الضامنة لمنع تجدد الصدام بين وحدات حماية الشعب الكردية والجيش التركي. لذا دفع الرئيس بوتين، خلال لقائه الرئيس التركي في سوتشي، لتمرير اقتراحه بأن يكون الطريق السريع M4 هو خط التماس، بحيث تُقام ترتيبات أمنية وعسكرية بتفاهمات كبرى شمال الطريق، وتمتد من اللاذقية إلى الحسكة، ما يعني ضمنا موافقة تركيا على وصول دمشق إلى جنوب إدلب.
ختاماً يمكن القول إن قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان أفرزت استحقاقات سياسية وعسكرية مغايرة في المشهد السوري، في الصدارة منها كسر جمود العلاقة بين أنقرة ودمشق برعاية روسية، ناهيك عن قناعة أنقرة بأنه لا يمكن لها تحقيق أهداف عملية "نبع السلام"، وإقامة منطقة آمنة، وإخراج وحدات حماية الشعب الكردية وتفكيك سلاحها الثقيل والإعداد لإعادة مليون سوري من دون التفاهم مع موسكو لتحديد خطوط التماس مع قوات الحكومة السورية لتحل محل الوحدات الكردية.
aXA6IDE4LjExNi4yNC4xMTEg جزيرة ام اند امز