ضربة مباشرة واستهداف روسي لأحد أكبر مراكز تدريب وإعداد المرتزقة والإرهابيين لصالح تركيا في الشمال السوري المحتل.
لا تُقاسُ نتائجُ الغارة الجوية الروسية على أحد مراكز تدريب "فيلق الشام" شمال غرب إدلب بعدد من سقطوا جراءها، ولا تُعتبر إيذاناً بمعركة وشيكة في آخر بقعة جغرافية يتموضع المسلحون فيها؛ إنها، بكل وضوح، تعبيرٌ عن ضيق صدْر بوتين من مراوغات أردوغان وتقلباته في الملف السوري من ناحية، وتذكيرٌ له من ناحية أخرى بأن موسكو تحوز بيديها من الأوراق ما يجعلها قادرةً على الإمساك بزمام المبادرة في أكثر ملاعب الجانب التركي تأثيراً وحساسية على أمنه القومي والوطني، وأن الاقترابَ من فناء روسيا الخلفي، جنوب القوقاز، بعض دول آسيا الوسطى، أوكرانيا، ومحاولات العبث بأمنه واستقراره عبر تلك البوابات لن تمرَّ دون ثمن .
جملةُ عوامل متعارضة تراكمت في الآونة الأخيرة بين الحليفين المتناقضين في كثير من الملفات؛ السورية والليبية - والأذرية – الأرمينية ؛ تشي باحتمال العودة إلى سياسة ليِّ الذراع بينهما تكون روسيا هي المبادرة إلى ذلك لأنها تمتلك جميع مبررات هذا النهج بعد أن أمعن الرئيس التركي في تجاهله لمصالح الروس في أكثر من ساحة، وربما أكثرها إثارة لسخط موسكو كانت مجريات الصراع الأذري الأرميني حول إقليم ناغورني قاراباخ . رمزيةُ المقر المستهدف في الشمال السوري تكمن في كونه حاضنةَ تدريب وتأهيل للمسلحين الذين يشكلون الذراع العسكري لجماعة الإخوان المسلمين بكل متطلباتها الميدانية واللوجستية والإدارية برعاية أنقرة المباشرة بعد أٌن قامت بتجهيزه، ويُعتبر موقعاً متقدما يرعاه الاحتلال التركي على الأراضي السورية، علاوة على أن المستهدفين يُصَنفون من الجانب التركي بأنهم الأكثرُ التصاقاً بهم والأكثر استعداداً لتنفيذ أجندات تركيا – أردوغان، ومع ذلك ليس من الموضوعية القفزُ فوق واقعة الاستهداف بدلالاتها الميدانية المباشرة، فهي تُفصح عن رسالة روسية مركبة ؛ للجانب التركي أولاً ولمن يأتمرون من المسلحين السوريين بإمرتهم ثانياً تقول إن الوضع الراهن في ما تبقى من إدلب، وبقاءه خارج سلطة الدولة السورية لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية، ولابد من طي صفحته عاجلا أم آجلا، وإنَّ فرصة إنهاء هذا الوضع لا تشكل معضلة لموسكو حين تنضج الظروف .
من الواضح أن قرار بوتين باستهداف الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا تحت مسمع وأنظار راعيهم التركي يتخطى حدودَ الصراع على ما تبقى من الميدان السوري، بل يصل إلى حدود الرهان على إجبار الطرف الراعي لتلك المجموعات على العودة إلى دائرة الوعي الاستراتيجي، والتفاهم وتقدير مصالح الآخر وصونها ليس في المسألة السورية فحسب ؛ بل ينسحب ذلك على مجمل القضايا التي تشكل نقاطَ احتكاك، أو تجاذب، أو تشارك بين الجانبين، وأن مسألةَ انتزاع المزيد من الأوراق التي بحوزة أردوغان أو خلطها على الأقل ؛ أمرٌ لا تعجز عنه موسكو في حساباتها الاستراتيجية، ولا تعيقُه تكتيكاتٌ ناتجة عن اندفاعة ايديولوجية ومواقف استعراضية كما هو الحال بالنسبة للرئيس التركي، ذلك أن المصالح بين الدول بقدر ما تتقاطع في مكان ما فإنها قد تتعارض في سياقات أخرى .
هل قرأ أردوغان ما بين سطور الاستهداف الروسي لأبرز أذرعه العسكرية الإخوانية على الساحة السورية ؟ ماهي خياراته المتاحة للرد في حال قرر ذلك ؟ هل يتورط ويدفع نحو تسخين جبهة إدلب التي سيكون لجولات القتال فيها سياقٌ مغاير لجميع الجولات السابقة في ظل توقِ الدولة السورية لإنهاء وجود المسلحين في آخر جيوبهم على الأراضي السورية ؟ . جاء تعليقُ أردوغان الباهت بعد صمتٍ على الصفعة الروسية ترجمةً صريحة لحالة الارتباك والصدمة التي شكلتها الغارة الروسية، وربما كانت أنقرة تترقب تصعيداً روسياً ضدها في ساحات قاراباخ بعد تعطيلها الجهود الروسية الساعية لوقف القتال والوصول إلى حل للصراع، لكنّ موسكو تدرك أن الانخراطَ التركي في القتال هناك عبر مجموعات من المرتزقة لا يحقق لها أهدافَها، ودونه الكثيرُ من العقبات الجدية لأنه يتعارض مع مصالح دول مؤثرة وفاعلة في تلك المنطقة ويسهم في زعزعة استقرارها نظرا للأطماع التركية التوسعية .
صدى الضربة الروسية سيترددُ في أكثر من ساحة عمل مشتركة بين موسكو وأنقرة، من سوريا إلى ليبيا فقاراباخ وغيرها، ولم يعد بإمكان أردوغان صمُّ أذنيه عن رسائل بوتين التحذيرية، ولن يكون قادراً بعدها على المضي في مشاريعه التوسعية بالنهج ذاته الذي اتبعه مع الجانب الروسي في محطات سابقة قبل أن يأخذَ بعين الاعتبار مصالحَ روسيا وقدراتها وإصرارها على إبراز تفوقها العسكري والسياسي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة