يبدو أن سياسات أردوغان العدوانية والتوسعية في المنطقة، تقترب من مواجهة مباشرة مع الجانب الروسي.
نظرةُ موسكو "الأمنية" لما يجري ويحدث في عدد من البلدان المحيطة بها أو القريبة منها تبدو حتى اللحظة هي المعيار الرئيسي للسياسة الروسية، وهي لا تبدو كافيةً لدرء المخاطر المحدقة بها مستقبلاً في ظل تغلغل العثماني الجديد في عدد من تلك البلدان مستغلاً صراعاتها الداخلية أو صراعات بعضها مع بعض . الموقف الروسي الراهن الذي يمكن وصفه ب"الدفاعي التبريري" حيال تداعيات الميدانين العسكري والسياسي في الصراع الأرميني – الأذربيجاني على إقليم ناغورني قاراباخ يثير زوبعةً من التكهنات إزاء تطورات الأحداث ومآلاتها في محيطها الحيوي، وإزاء التحركات التركية العسكرية كما هو حاصل هناك، إضافة إلى التحركات السياسية التي تشهدها العلاقات التركية مع أوكرانيا بعد زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة . هل وجدت موسكو في تحولات المشهد في محيطها ما هو مفيدٌ لمصالحها الحيوية والاستراتيجية دون أن تتكبد خسائرَ أو عناءَ التورط فيه ؟ إلى أي مدى تستطيع موسكو الاستثمار في مجريات ونتائج حرب قاراباخ ؟ هل بات الكرملين مطمئنّاً لأردوغان وسياساته إلى درجة تعفي موسكو من اتخاذ خطوات عملية وميدانية تحمي مصالحها مستقبلا ؟ أم إن روسيا لا تملك القدرات والإمكانيات التي تؤهلها لخوض غمار صراع ميداني ولو محدود يمنحها الورقةَ الأقوى في تصفيات السباق الجاري ضمن مضمارٍ هي معنيّةٌ به شاءت ذلك أم لم تشأْ ؟ .
لا تبدو روسيا – بوتين مهتمةً بالعودة إلى نهج الهيمنة عبر الإكراه وإخضاع بعض الدول التي باتت تشكل خاصرة رخوة بالنسبة لها، مثل بلاد ما وراء القوقاز على سبيل المثال؛ بسبب الأكلاف المادية والمعنوية التي تترتب على مثل هذه السياسة وما تحمله من مخاطر استراتيجية الطابع لاحقاً، ويبدو أنها ارتأت انتهاجَ سياسة الهيمنة السياسية بشكل مدروس على بعض الدول الواقعة في فنائها الخلفي وذات الأهمية القصوى لمصالحها، مثل أوكرانيا المقسمة، وبيلاروسيا المأزومة، وبعض دول آسيا الوسطى، لكن عواملَ مختلفة وعديدة داخلية وخارجية لا تصب، على المدى الاستراتيجي، في مصلحة الروس في تلك المناطق، منها أن تلك الدول التي كانت تدور في فلك موسكو السوفيتية سابقاً ظلت على مدى أزمان غابرة مثقلة بعقيدة أيديولوجية مغلقة ومناقضة في كثير من منطلقاتها لمبدأ حرية الإنسان وحقوقه، وقد تركت في أرواح شعوب تلك الدول نُدباً تحتاج عقوداً من السنين كي تمّحي، ومنها تربّصُ حلف شمال الأطلسي الذي استمرأ العداوة لروسيا كونها الوريثةَ الشرعية لإرث الاتحاد السوفييتي السابق عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واستراتيجياً .. ثمة عواملُ عدة تشير إلى أن أردوغان يرسم مشاريعه التوسعية وينفذها بطريقة الانخراط التدريجي أو التسلل المتقطع في جميع المواقع التي يصل إليها، وبات يعتمد على مجموعات من المرتزقة يجندهم في حروبه ويتركهم نهباً للصراع الدائر، ولذلك يطرح التمدد التركي في عدد من دول آسيا الوسطى، وأبرزها الدول التي كانت ضمن تشكيلة الاتحاد السوفييتي السابق، إشارات استفهام عن الدوافع المحرضة له كي يقتنصَ أي فرصة للقفز إلى دائرة الحضور فيها والانخراط في أعمال عسكرية تجعله طرفاً محتلاً بعد أن يتمكن من الاستيلاء على قرار الطرف القريب من سياسته ونهجه وغالباً يكون طرفاً ضعيفاً يطلب المؤازرة فيلتقط الجانبُ التركي ذلك الطلب ويبني عليه مواقفه السياسية عبر أساليب المناورة والابتزاز .
تلوح أمام موسكو فرصة ثمينة لمحاصرة أردوغان ولجم نزعته التوسعية بعد أن تجمعت خيوطُ لعبته التي نسجها في جزء من فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي السابق وباتت مكشوفة ومعروفة وأبرزها تبنيه العلني للحرب ضد أرمينيا في قاراباخ، فمن جهة يمكن للروس استعادةُ العلاقة مع أرمينيا على قاعدة تبادل المصالح وحمايتها من العدو التركي، ومن جهة أخرى تستطيع تعميقَ الشرخ بين تركيا ودول الناتو حيث تمر علاقات الطرفين بأسوأ مراحلها بسبب مواقف أنقرة العدائية ضد عدد من دوله مثل اليونان وقبرص وفرنسا وغيرها في شرق المتوسط، وتدرك روسيا أن عزلةَ أنقرة داخل الناتو نقطةُ ضعف يمكن استثمارها إذا ما قررت منعَ أردوغان من تثبيت أقدامه في تلك المنطقة، أو إذا ما أرادت محوَ آثار وجوده لاحقاً. التجاربُ العديدة المشتركة لروسيا مع تركيا أثبتت للكرملين أن أردوغان لا يمكن الوثوقُ به، وأحيانا يكون شريكاً تكتيكياً في بعض السيناريوهات لا يلبث أن ينقلبَ ويتراجع عن التزاماته بذرائع وحجج متعددة، وتجربةُ الصراع الماثلة حول إقليم قاراباخ أظهرت بشكل قاطع أن تركيا أردوغان اختارت سلوكاً عدائياً لمصالح موسكو سواء بمقاييس الميدان أو بمعايير السياسة، وأدت إلى وضع الروس في موقف لا يحسدون عليه؛ بين ترقب لا يجدي نفعاً، أو سلوك غير محسوب النتائج .
بوتين، الذي خَبِرَ جيداً نظيره التركي في أكثر من منعطف وموقف، يعي مرتكزاتِ قوته الذاتية وطول أذرعه الرادعة حين يقتضي الأمر ذلك، وهذه السياسة ترجمها الرئيسُ الروسي في مواقف عملية وهجومية بوجه أردوغان في ساحات سوريا وليبيا، وبوتين يدرك أيضا أن توقيتَ تدشين اللعبة التركية في أوكرانيا بالتزامن مع تسعير الحرب ضد أرمينيا لا ينفصلُ عن أهداف أردوغان في أذربيجان وعموم دول القوقاز بكل ما تتضمنه من خطر على بلاده ؛ إما بامتلاك أوراق ضغط إضافية على موسكو، أو بتفجير حركات تمرد في بعض الدول في تلك المنطقة واستغلالها لتوسيع دائرة حضوره واحتلاله غير المباشر، وبذلك تحصلُ أنقرة على نقطة توتر أخرى على تخوم روسيا . يعكس البرود، أو التباطؤ الروسي في ردات الفعل، رؤيةً استراتيجية لمرحلة ما بعد الاندفاع التركي حين تصمتُ المدافع، وينكشفُ ظهرُ أردوغان في تلك المنطقة الحساسة بالنسبة للأمن القومي الروسي، وما تتطلبه تلك المرحلة من خطوات ومواقف روسية حازمة وحاسمة ضد غطرسته وتهوره .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة