من الناحية الاقتصادية تشكل سوريا بوابة روسيا إلى الشرق برمته وميناء تحط به السفن ومحطة استراحة يمكن لموسكو فيها التنقل
من يراقب أداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك بلا أدنى تحفظ حجم الدهاء والمكر، الذي يحمله الرجل الذي استطاع بطرق شرعية وأخرى، الوصول ببلاده إلى القمة وإرجاعها إلى فترة تشبه تلك التي عاشتها منذ عام 1945 وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، حين قاسم الأخير الولايات المتحدة النفوذ العالمي باعتبارهما القوتين العظميين المسيطرتين على الأجندة الدولية؛ السياسية منها والاقتصادية وكذلك العسكرية، ولمّا كانت روسيا بوتين الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي كان لزاما على الرئيس الروسي الحالي البحث عن منافذ توصله إلى المجد الذي وصلت إليه بلاده فيما سبق، لذلك عمد إلى انتهاج سياسة إرضاء الداخل التّواق لزمن القوة والهيمنة بتقوية النفوذ الروسي في الخارج، وكان هذا عبر عدة بوابات أهمها سوريا.
قبل استعراض القوة الروسية في سوريا لا بدّ من المرور على قضية مهمة تمكن عبرها بوتين من الحصول على شرعية البقاء في الحكم حتى الشبع بتعديله الدستور الروسي عقب موافقة مجلس الدوما الروسي بتأييد 383 صوتا من أصل 450 وبشكل نهائي على تعديلات دستورية تسمح له الترشح للرئاسة مجددا في عام 2024، وهو ما فسره معارضو الكرملين بأنّه السعي للزعامة مدى الحياة، كما قال زعيمهم أليكسي نافالني.
قد لا تكون سوريا البوابة الرئيسية في مسألة دخول الرئيس الروسي على خط النفوذ القوي وثنائية القطبية من جديد مناصفة مع الولايات المتحدة، ولكنّها الأهم على الإطلاق حين أصرّ زعيم الكرملين على عدم تسليمها للغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد، كما حدث في العراق وليبيا، حين اجتمعت الدول الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة على تغيير نظام الحكم في هذين البلدين بالقوة، ما عارضته موسكو وهذا عزمتا على تنفيذه بسوريا لولا التدخل الروسي المباشر سياسيا وعسكريا، وعليه بات العالم برمته يفاوض الروس في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بسوريا.
من الناحية الاقتصادية تشكل سوريا بوابة روسيا إلى الشرق برمته وميناء تحط به السفن الروسية ومحطة استراحة يمكن لموسكو فيها التنقل من دون أن يعكر صفوها أي مضايقات مالية أو لوجيستية لما تملكه في الداخل السوري من ثقل خصوصا بعد عقود الاستثمار الأخيرة
ثمة من يقول: أليس من المبالغة الحديث بأنّ سوريا وملفها هما من عادا بروسيا إلى واجهة الدول الأكثر تأثيرا في العالم؟
في واقع الأمر الإجابة عن هذا السؤال هي "لا"، فما تمثله سوريا بالنسبة لروسيا لا يمكن تقديره لا من الناحية الاقتصادية ولا العسكرية وكلاهما يقود إلى احتلال مكانة سياسية كبيرة على مستوى العالم، وبالتالي يصل الرئيس الروسي إلى مبتغاه بأن يكون الرجل الأقوى على مستوى العالم.
من الناحية الاقتصادية تشكل سوريا بوابة روسيا إلى الشرق برمته وميناء تحط به السفن الروسية ومحطة استراحة يمكن لموسكو فيها التنقل من دون أن يعكر صفوها أي مضايقات مالية أو لوجيستية لما تملكه في الداخل السوري من ثقل، خصوصا بعد عقود الاستثمار الأخيرة التي كان من أهمها استئجار ميناء طرطوس لـ49 عاما، مع إمكانية التجديد التلقائي لفترات لمدة 25 عاما.
أما عسكريا فباتت أرض سوريا وسماؤها مجالين مفتوحين لموسكو تستطيع فعل ما تريد بالتنسيق مع حليفتها دمشق، ولم يخف الروس نهمهم لتجريب ما يزيد على 200 سلاح جديد، وهذا لم يكن سرّا بل صرح بذلك رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروسي فاليري غيراسيموف.
ولم تقتصر الاستفادة الروسية على العنصر المادي أي الأسلحة، بل شملت ألوية الجيش الروسي التي خدم أكثر من نصفها في سوريا خلال السنتين الماضيتين، وهي حتما ستكون تجربة مفيدة للروس الذين يخوضون حربهم الأولى خارج حدود بلادهم منذ غزو أفغانستان عام 1979.
كل هذا لا شّك مكّن روسيا من إرساء قواعدها في منطقة شرق المتوسط، بحيث حجزت مكانا لها مجابهة بذلك حلف شمال الأطلسي "الناتو" المتمركز في تركيا (قواعد أنجرليك بيرنكيك – سينوب) والإبقاء على ترسانة عسكرية روسية كاملة، وهذا مانصت عليه اتفاقية استئجار ميناء طرطوس والسماح بوجود 11 سفينة حربية بما في ذلك النووية، كما تنص الاتفاقية التي بدأ تطبيقها في 18 يناير/كانون الثاني 2017 بأن تتولى روسيا حماية مركز الإمداد التابع لأسطولها في البحر والجو.
نستطيع القول إنّه وعبر البوابة السورية والملف الشائك الباحث عن حل لحرب اقتربت من سنتها العاشرة وما حققته موسكو من مكاسب على الصعيد الدولي سواء اقتصادية أو عسكرية أو سياسية، استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تغيير مزاج الداخل الروسي بتعديل الدستور وفرض ذاته لولايتين جديدتين عقب انتهاء ولايته الحالية في 2024، وبذلك يحتفظ بالسلطة لأكثر من 24 عاما ليصبح القائد الأعلى وليس الرئيس فحسب، وهذا ما طلب تعديله وتمّ له في الدستور الروسي الجديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة