نتائج الانتخابات أذهلت الساسة الموجودين في السلطة حالياً، فكثير من المخضرمين الأقوياء فقدوا الأصوات التي كانت تنتخبهم تقليدياً.
امتلأ الشارع العراقي بعدد هائل من النكات والطرائف حول احتراق صناديق الاقتراع في المفوضية العامة للانتخابات، الذي وقع في كل من بغداد وكركوك الأسبوع الفائت، كما واصلت شبكات التواصل الاجتماعي تبادل تلك النكات والطرائف، واستحضرت الأغاني العراقية التي تتطابق كلماتها مع ما حصل، مثل شيوع أغنية شعبية تقول "شدعي عليك يا اللي حرقت صوتي"، "بدلاً من قلبي"، وتهكم البعض من شرح أسباب الحريق بقوله إنها ليست مؤامرة على الانتخابات، بل هي مجرد تماس كهربائي أشعل النار في صناديق الاقتراع لا أكثر ولا أقل، ولا دخل للقوى السياسية المتنافسة، وآخرون سخروا من أن أسباب الحريق هي وجود تنور يصنع الخبز في أماكن حفظ صناديق الاقتراع أدى إلى اشتعال النار فيها. وآخرون قالوا لا تقلقوا إن أصواتهم محفوظة في الأجهزة الإلكترونية حتى لو احترقت الصناديق.
وظهرت أفلام فكاهية ومسرحيات هزلية وأغانٍ شعبية محورة حول هذا الحريق العجيب والغريب. البعض قال إن ألسنة النار لم تصل صناديق الاقتراع، والبعض الآخر قال إنها التهمت جميع الصناديق، وآخرون قالوا إنها حيلة لاستبدال بالصناديق أخرى مزورة وجاهزة.. وهكذا.. جعلت هذه الحادثة العراقيين يدورون في فلك الألغاز والطلاسم والتخمينات.. وكذلك في فلك الكوميديا السوداء.
إن دخول إيران على خط أزمة الانتخابات يكشف عن مدى إخفاقها في حشد القوى الشيعية أو معظمها في تحالف واحد، كما اعتادت أن تفعل في السابق، وفشلت في توحيد العناصر الشيعية المناصرة لها في تنظيم واحد، لأن رقعة الخلافات الشيعية الشيعية ازدادت حدة في هذه الانتخابات
لا يوجد في تاريخ الانتخابات في العالم بأكمله عدم ظهور نتائج الانتخابات بعد مرور أكثر من شهر كامل عليها، رغم إنفاق المفوضية العامة للانتخابات عشرات ملايين الدنانير على إعداد آلية الفرز الإلكتروني، بحجة أن العد اليدوي قابل للتلاعب والتزوير كما يستغرق وقتاً طويلاً، ولكن دون جدوى.
نتائج الانتخابات أذهلت الساسة الموجودين في السلطة حالياً، فكثير من المخضرمين الأقوياء فقدوا الأصوات التي كانت تنتخبهم تقليدياً. هل كانت عملية احتراق صناديق الاقتراع صدفة أم مُخططاً لها؟ وهل يُعقل قبل يومين؛ وبينما كان من المقرر، بحسب قرار مفوضية الانتخابات العراقية إعادة الفرز من جديد، يقع هذا الحريق الهائل في مخزن صناديق الاقتراع رغم التدابير الأمنية المشددة. البعض قال إنها عملية تهدف إلى حرق الانتخابات برمتها، وقد عبّر مقتدى الصدر، زعيم تيار "سائرون"، عن تخوفه من اندلاع حرب أهلية. وكل الدلائل تشير إلى أن القوى السياسية تتنازع على السلطة بشتى الطرق والأساليب، وأكثرها عنفاً ووحشية.
والسؤال المطروح: مَنْ عمد إلى إحراق صناديق الاقتراع؟
على أثر هذا الحريق، دعا بعض الساسة من أمثال إياد علاوي إلى تشكيل حكومة مؤقتة، وإجراء استفتاء شعبي تحت إشراف الأمم المتحدة، لكن هذه الفكرة لم تحظ بقبول التحالفات الفائزة؛ مثل "سائرون" وأهل السُنة، وتحالف عمار الحكيم، وتحالف الأغلبية الكردية بزعامة مسعود البارزاني. ولعل الهدف الأكبر لهذا الحريق هو العودة بالعملية السياسية إلى مربع الصفر الذي يكرّس هشاشة الوضع السياسي.
ومن نتائجه الأولى، دخول إيران على الخط مباشرة، التي ضغطت من أجل عقد تحالفات ملموسة مثل تحالف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر مع الفتح بقيادة هادي العامري، رجل إيران القوي ورئيس الحشد الشعبي في العراق، الذي حارب في صفوف الجيش الإيراني ضد الجيش العراقي أيام الحرب العراقية الإيرانية.
الأوضاع الجديدة فرزها احتراق صناديق الاقتراع، وتتعلق بالمنظومات السياسية الكبرى المهيمنة على سلطة القرار والمال والنفوذ والمؤسسات. وهذه ليست المرة الأولى التي تمر بها العملية السياسية بأزمات ومنزلقات خطيرة، فقد شهدت العملية السياسية الحالة نفسها في عام 2010. وبات واضحاً أن هناك في الكواليس مَنْ يدير الصراعات الطائفية والإثنية بين المكونات وانشقاقاتها الداخلية التي أدت إلى تدمير نسيج المجتمع العراقي، وإحلال الفساد في جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والخدمية والسياسية.
وتغيّرت المعادلة بعد حريق المخازن التي تحتوي على صناديق الاقتراع بغية استبعاد نتائجها من أجل العملية الانتخابية، التي تعتبر المقاعد الأوفر حظاً لكتلة "سائرون"، والفتح من حيث ثقل جماهيرها في منطقة الرصافة، كما كشف التحالف الأخير لكتلة الفتح المدعومة من إيران مع التحالف الثلاثي بقيادة "سائرون" قوة الجبهة التي انخرط فيها تحالف الفتح، كونها الأقرب إلى تشكيل الحكومة المقبلة، وليس هنالك خيار آخر يضمن سلامة المصالح الداخلية والخارجية إلا بالانضمام إلى هذا التحالف، وكأنها حتمية تاريخية، بعد أن خرج المالكي من اللعبة السياسية والرهان الخارجي.
ولم يذعن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الفائز الأول في الانتخابات، إلى مقترحات زعيم فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وطموحاته في تشكيل الحكومة المقبلة، وقد نجح في دفع رئيس قائمة "سائرون" إلى التحالف مع هادي العامري، وذلك ضَمن لإيران كثيرا من المصالح.. وكان أمل العراقيين أن يقوم مقتدى الصدر بتشكيل قوة وطنية شيعية عربية خارجة عن نطاق التأثيرات الإيرانية، لكنه خيّب آمال العراقيين والمتحالفين مع مثل الشيوعيين والعلمانيين والمدنيين.
وتطمح إيران إلى ضمان مصالحها أن تختار رئيساً من القوى الشيعية الخمس "سائرون والنصر والقانون والفتح والحكمة"، لكنها تفضّل، بلا شك، أن تكون الكتلة الكبرى مؤيدة لتوجهاتها الطائفية، وهي ضمنت جانب مقتدى الصدر، المهدد الرئيسي لها. وهناك أخبار لزيارة مجتبى، نجل علي خامنئي لبغداد، لترتيب العراق ما بعد الانتخابات وحرق صناديقها وما تداول عن تزويرها في البرلمان. ويتساءل الخبراء: ما وظيفة مجتبى بإيران وبالعراق أيضا، علماً بأن وظيفة قاسم سليماني هي المشرف العام على المليشيات، ومسؤول ملفات.
إن دخول إيران على خط أزمة الانتخابات يكشف عن مدى إخفاقها في حشد القوى الشيعية أو معظمها في تحالف واحد، كما اعتادت أن تفعل في السابق، وفشلت في توحيد العناصر الشيعية المناصرة لها في تنظيم واحد، لأن رقعة الخلافات الشيعية الشيعية ازدادت حدة في هذه الانتخابات بين عمّار الحكيم وهادي العامري ومقتدى الصدر، الزعامات الثلاث الرئيسية التي تفككت بعد الانتخابات، وأصبح لكل منها توجهاته الداخلية والخارجية الخاصة به. وقد أصبح واضحًا أن إيران خسرت كثيرا من حلفائها الشيعة، وظهور محور معتدل ينفتح على الخليج ويقيم علاقات متوازنة مع أمريكا.
أما الإدارة الأمريكية فقد اهتزت هي الأخرى مما جرى لصناديق الاقتراع، لأنها ضربت في الصميم ما تروج له من نزاهة العملية الديمقراطية، رغم أنها غير متمسكة بشخص رئيس الوزراء حيدر العبادي، ويمكنها أن تتعامل مع شخص آخر غيره. لذلك أوعزت للقادة العراقيين من مختلف التوجهات الطائفية والسياسية بعدم إعادة الانتخابات، لأن الجميع سيفقد المصداقية. ويعبّر الأمريكيون عن مخاوفهم من انهيار أمني جديد تكون نواته تنافس الأحزاب والكتل السياسية على السلطة.
مما لا شك فيه أن الأيام المقبلة ستكشف لنا عن مصير التحالفات السياسية التي لا تمانع من التنازل والمراوغة والانقلاب لضمان مصالح أحزابها في الدرجة الأولى، وليس مصالح الشعب العراقي الغارق في الفساد والطائفية والنزوح والمخيمات، وحّر الصيف دون كهرباء، وغياب الحصة التموينية، وحالة التقشف والديون المتراكمة، وفقدان الإيمان بالعملية السياسية، وتبخّر فكرة الديمقراطية.. والعودة إلى المربع الأول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة