قابوس بن سعيد.. القائد الملهم مؤسس سلطنة عمان الحديثة
في 23 يوليو 1970 صعد السلطان قابوس بن سعيد إلى سدة الحكم أي وهو في سن الثلاثين، ليصبح السلطان رقم (9) في تاريخ السلطنة
يحتفل العمانيون، اليوم الإثنين 18 نوفمبر/تشرين الثاني، بالعيد الوطني الـ49 لبلادهم، بمشاعر يملؤها الفخر والتقدير والامتنان للسلطان قابوس بن سعيد باني نهضة عُمان الحديثة، الذي استطاع منذ توليه مقاليد الحكم قبل 49 عاما، إقامة دولة عصرية تستلهم قيم الماضي وتنهض بالحاضر وتسير بخطى ثابتة واثقة نحو مستقبل زاهر.
ويعد السلطان قابوس الذي تولى مقاليد الحكم في السلطنة في 23 يوليو/تموز 1970، صاحب أطول فترة حكم من بين الحكام العرب والثالث في العالم.
كما يعد أحد زعماء الخليج الذين قاموا بتأسيس مجلس التعاون الخليجي خلال قمتهم الأولى في أبوظبي مايو/أيار عام 1981.
وطوال فترة حكمه التي استمرت قرابة نصف قرن، نجح السلطان قابوس في بناء دولة عصرية، حيث نقل البلاد من الحكم القبلي التقليدي إلى دولة المؤسسات والقانون، فأسس السلطة التنفيذية للدولة، وأصدر النظام الأساسي للحكم (الدستور)، واهتم بالحياة البرلمانية وتطوير مؤسساتها وتوسيع صلاحياتها.
وقد جعل السلطان قابوس نهضة عُمان وبناء وطنه وتحقيق رفاهية وسعادة شعبه أهم مرتكزات حكمه، فشهدت البلاد في عهده نقلة نوعية في التعليم والثقافة والصحة والاقتصاد والسياحة، واتسمت السياسة الخارجية لبلاده بإقامة علاقات صداقة مع العالم وتعزيز العلاقات الحسنة والمتكافئة، واعتماد سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.
مولده ونشأته
ولد السلطان قابوس بن سعيد في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1940 في مدينة صلالة بمحافظة ظفار، وهو السلطان الثامن لعمان في التسلسل المباشر لأسرة آل بوسعيد التي تأسست على يد الإمام أحمد بن سعيد في عام 1741.
تلقى تعليمه الأساسي على أيدي أساتذة مختصين، كما درس المرحلة الابتدائية في المدرسة السعيدية بصلالة.
وفي سبتمبر/أيلول 1958 أرسله والده السلطان سعيد بن تيمور إلى المملكة المتحدة، حيث واصل تعليمه لمدة عامين في مؤسسة تعليمية خاصة في "سافوك"، وفي عام 1960 التحق بالأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية "ساند هيرست" كضابط مرشح، حيث أمضى فيهـا عامين درس خلالهما العلوم العسكرية وتخرج برتبة ملازم ثان، ثم انضم إلى إحدى الكتائب البريطانية العاملة آنذاك في ألمانيا الغربية.
بعدها عاد إلى بريطانيا ودرس لمدة عام في مجال نظم الحكم المحلي، وأكمل دورات تخصصية في شؤون الإدارة، ثم هيأ له والده الفرصة، فقام بجولة حول العالم استغرقت 3 أشهر، عاد بعدها إلى بلاده عام 1964 وأقام في مدينة صلالة.
وعقب عودته إلى بلاده، وعلى مدار 6 سنوات تعمق في دراسة الدين الإسلامي، وكل ما يتصل بتاريخ وحضارة عُمان دولة وشعباً على مر العصور.
وقال السلطان في أحد أحاديثه عن تلك الفترة: "كان إصرار والدي على دراسة ديني وتاريخ وثقافة بلدي له عظيم الأثر في توسيع مداركي ووعيي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية عموماً".
وأردف: "وكذلك استفدت من التعليم الغربي وخضعت لحياة الجندية، وأخيراً كانت لدي الفرصة للاستفادة من قراءة الأفكار السياسية والفلسفية للعديد من مفكري العالم المشهورين".
تولي الحكم.. وإطلاق مسيرة النهضة
بتلك الحصيلة المعرفية الواسعة في مختلف المجالات، تولى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في 23 يوليو/تموز عام 1970، وهو في الثلاثين من عمره، واضعا نصب عينيه رؤية واضحة للنهوض ببلاده.
وعقب توليه الحكم، بدأ في تكوين سُلطة تنفيذية مؤلفة من جهاز إداري يشمل مجلس الوزراء والوزارات المختلفة، إضافة إلى الدوائر الإدارية والفنية والمجالس المتخصصة.
ومن أولى الوزارات التي أسَّسها السلطان قابوس بعد توليه مقاليد الحكم مباشرة وزارة الخارجية، محققاً بذلك روابط وصلات بالعالم الخارجي مبنية على أسس مدروسة.
النظام الأساسي للدولة
وفي خطوة هامة على طريق بناء دولة المؤسسات والقانون، أصدر السلطان قابوس عام 1996 النظام الأساسي للدولة الذي يمثل دستور سلطنة عمان ويوفر الإطار القانوني لتطوير وتنفيذ كافة التشريعات والسياسات الحكومية.
وقد أصبح النظام الأساسي للدولة، منذ إصداره، يشكل الأساس لكافة التشريعات القانونية، كما أنه يعتبر المرجعية النهائية للسلطة القضائية في سلطنة عمان.
ويحدد النظام الأساسي للدولة شكل الحكومة في السلطنة، والإطار الذي ينبغي أن تتطور في نطاقه المؤسسات التشريعية والمؤسسات السياسية الأخرى.
كما نص النظام الأساسي للدولة على إنشاء مجلس عمان الذي يتكون من مجلس الشورى يضم بدوره أعضاء منتخبين ومجلس الدولة المعين، بالإضافة إلى القضاء المستقل، كما أنه يحدد التنظيم الهيكلي للإدارة السياسية في السلطنة.
ويركز النظام الأساسي للدولة على حقوق وواجبات المواطنين العمانيين التي تتضمن عدم التمييز بأي شكل من الأشكال، وحرية التعبير والتجمع، وحق المشاركة في القرارات السياسية للدولة، وحق الملكية الخاصة والحق في الخصوصية الشخصية وحرية الدين والمساواة بين الجنسين.
تطوير الحياة البرلمانية
اهتم السلطان قابوس بدعم تطوير مسيرة الشورى في البلاد وتعزيز مشاركة المجتمع في صنع القرار، فأنشأ مجلسا استشاريا عام 1981، ثم أنشأ مجلس الشورى العماني في عام 1991 ليكون بديلا عن المجلس الاستشاري، ويضم مجلس الشورى ممثلي ولايات سلطنة عمان الذين ينتخبون من قبل المواطنين العمانيين في انتخابات عامة تجرى كل 4 أعوام.
وتوسيعًا لقاعدة المشاركة في الرأي بما يؤدي إلى الاستفادة من خبرات أهل العلم وذوي الاختصاص ويسهم في تنفيذ استراتيجية التنمية الشاملة وخدمة الصالح العام، صدر في عام 1997 المرسوم السلطاني بإنشاء مجلس عمان والذي يتكون من مجلسي الدولة والشورى.
وكان مجلس الشورى استشاريا حتى 2011، حيث تم منحه في تلك السنة صلاحيات تشريعية ورقابية بمرسوم سلطاني صدر في مارس/آذار 2011.
ويعد مجلس الشورى أحد جناحي مجلس عمان الذي يضطلع بصلاحيات تشريعية ورقابية نص عليه النظام الأساسي للدولة بما يخدم الصالح العام للوطن والمواطنين، ويدعم تطوير مسيرة الشورى في البلاد ويعزز مشاركة المجتمع في صنع القرار ويساهم في تحقيق التنمية الشاملة.
حياد إيجابي.. تعزيز السلام والاستقرار
على الصعيد الخارجي رسم السلطان قابوس سياسة عمان الخارجية وفق أسس ومبادئ راسخة تقوم على التعايش السلمي بين جميع الشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير والاحترام المتبادل لحقوق السيادة الوطنية ومد الجسور مع الآخرين، وفتح آفاق التعاون والعلاقات الطيبة مع مختلف الدول الشقيقة والصديقة على امتداد العالم وفق أسس واضحة ومحددة، وتؤمن السلطنة بسياسة الحياد الإيجابي.
وبعد عام واحد من توليه الحكم انضمت عُمان إلى جامعة الدول العربية، ثم بعد نحو 10 أعوام من توليه مهام السلطنة، شارك مع قادة دول الخليج آنذاك بتأسيس مجلس التعاون الخليجي في أبوظبي عام 1981.
وتعد سلطنة عمان عضوا فاعلا في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية وتعمل جنبا إلى جنب مع الأشقاء العرب في بلورة رؤى استراتيجية للقضايا العربية الراهنة ومنها القضية المحورية وهي قضية فلسطين ومناصرة حقوق الشعب الفلسطيني لاستعادة كامل حقوقه واعتماد خيار السلام في النزاع العربي الإسرائيلي بما يحقق الأمن والسلام في المنطقة.
ولا تألو السلطنة جهدا في نشر التسامح والمحبة والسلام بين جميع الشعوب وإدانة كل أشكال وأنواع التطرف والإرهاب العنف والغلو.
إنجازات متواصلة
وتمكنت سلطنة عمان، خلال الأعوام الـ49 الماضية من مواجهة التحديات والعقبات التي أمامها، من خلال تضافر كامل الجهود من المواطنين الذكور والإناث، دون فرق ما نتج عنه بناء الدولة العصرية، وتمهيد الطريق لمستقبل أفضل.
ونجحت السلطنة، في ظل توجيهات القيادة العمانية في تحقيق الإنجازات والمساعي المرجوة، خلال الـ49 الماضية بالمجالات كافة، في تحقيق الحياة الكريمة للمواطن العماني، وفقاً للإحصائيات الرسمية.
وشهدت البلاد نقلة نوعية في التعليم والثقافة والصحة والاقتصاد والسياحة، تجسدت في توقيع الاتفاقيات ومذكرات التعاون والتفاهم مع دول العالم المختلفة.
وتسعى الحكومة العمانية إلى تحقيق طموحات وتطلعات شعبها، من خلال استخدام الطاقات البديلة والتشجيع على الاستثمار في هذا المجال، بحيث تجسد ذلك في إبرام عقود بمشاريع الطاقة الشمسية.
كما وقعت السلطنة، عقوداً للتنقيب عن الغاز مع الشركات العالمية، وذلك من ضمن الجهود المبذولة، لتنويع مصادر الدخل وتحقيق الازدهار للبلاد.
وتنطلق مسيرة التنمية العمانية الحديثة بخطى واثقة لتحقيق المزيد من التقدم والازدهار للمواطن العماني وتحسين مستويات المعيشة له بشكل دائم ومتواصل، مع توفير كل ما يمكن الاقتصاد العماني من تحقيق الأهداف المحددة له من حيث النمو وتنويع مصادر الدخل والحد من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات الحكومية، وتنفيذ المشاريع في القطاعات الرئيسية المعتمدة في الخطة الخمسية التاسعة (2016-2020).
وتتواصل مسيرة التنمية هذه أيضاً عبر البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي، والاستعداد لاستراتيجية رؤية مستقبلية (عمان 2040) للانطلاق باقتصاد السلطنة إلى آفاق أرحب وتحويل السلطنة إلى مركز إقليمي لوجيستي متطور، خاصة مع استكمال مشروعات المنطقة الاقتصادية.
وتسعى سلطنة عمان في خططها التنموية إلى خفض الاعتماد على النفط بنسبة 22 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2020، من خلال استثمار 106 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، إذ يبلغ الاعتماد الحالي على النفط 44 في المائة.
على صعيد ذي صلة، حققت السلطنة مراتب متقدمة في العديد من المؤشرات التي تصدرها مؤسسات دولية حول جوانب مختلفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر تصدرت السلطنة المراتب الأولى في عدد من مؤشرات التنافسية الدولية كمؤشر وقوع الإرهاب، ومؤشر الخلو من الإرهاب، ومؤشر موثوقية خدمات الشرطة، ومؤشر استقلال القضاء، ومؤشر جودة الطرق، ومؤشر كفاءة خدمات الموانئ، ومؤشر البيانات المفتوحة وغيرها وهو ما يعكس الجهد الكبير الذي تبذله الحكومة في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وغيرها.
العلاقات الإماراتية العمانية
في عهد السلطان قابوس، شهدت العلاقات الثنائية بين دولة الإمارات وسلطنة عمان تطورا ملحوظا في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ويحرص البلدان على التنسيق المتبادل بينهما في مختلف المحافل الإقليمية والدولية تجاه القضايا ذات الاهتمام المشترك بما يخدم مصلحة الجانبين.
وتعود العلاقات الإماراتية - العمانية لعقود مضت، وشكلت الزيارة التاريخية للشيخ زايد إلى سلطنة عمان في عام 1991 منعطفاً مهماً في مسيرة التعاون بين البلدين، والتي تم على إثرها تشكيل لجنة عليا مشتركة بين البلدين كان من أبرز إنجازاتها اتخاذ قرار بتنقل المواطنين بين البلدين باستخدام البطاقة الشخصية "الهوية" بدلاً من جوازات السفر، وتشكيل لجنة اقتصادية عليا أجرت العديد من الدراسات لإقامة مجموعة من المشاريع المشتركة.
وازدادت العلاقات الثنائية الأخوية بين البلدين تمسكاً ورسوخاً في ظل القيادة الحكيمة للشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الإمارات حيث تعتبر هذه العلاقة مثالاً للروابط القوية المتأصلة في وجدان البلدين وتاريخهما المشترك إلى جانب الزيارات المتبادلة بين القيادتين.
التفاف شعبي
وتعد مناسبة الاحتفال بالعيد الوطني التاسع والأربعين فرصة مناسبة ليجدد أبناء الشعب العماني فيها الولاء والعرفان للسلطان قابوس ويواصلون السير خلف قيادته الحكيمة، بعد أن أحدث تغييرات جذرية في البلاد بعد توليه الحكم، إذ أقام دعائمها ومضى بمسيرتها التنموية قدمًا بما ينافس غيرها من الدول المتقدمة وتولى إدارة شؤونها بحنكة وحكمة بالغة.
واستطاع أن يضع قاعدة صلبة للاستقرار والتنميـة المستدامة بفكر واع ورؤية استراتيجية شاملة ترتكز على تحقيق وترسيخ الروح الوطنية وإشراك المواطن ليقوم بالدور الأساسي كشــريك للتنمية في صياغتها وتوجيهها عبر الثقة بقدرات المواطن وإتاحة الفرصة أمامه ليقوم بدوره لذلك حظيت سياساته بالتفاف شعبي أكسبته القدرة على التأثير وتحقيق نتائج تنموية باهرة على المستوى المحلي على مختلف الأصعدة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
هذا الالتفاف الشعبي كان يظهر جليا في الجولات الميدانية التفقدية التي يقوم بها السلطان قابوس في أنحاء البلاد ليلتقي مباشرة بأبناء شعبه في مناطقهم يستمع إلى آرائهم ومقترحاتهم ويوجه الأجهزة الحكومية إلى العمل لما فيه مصلحتهم وأمنهم ويتلقى الرسائل الشخصية.
واستطاعت عمان، دولة ومجتمعا وموطنا، الانتقال مما كانت عليه عام 1970 إلى آفاق القرن الحادي والعشرين، وإلى الإسهام النشط والإيجابي لصالح السلام والأمن والاستقرار لها ولكل دول وشعوب المنطقة من حولها، مرتكزة على إنجازات اقتصادية واجتماعية، وعلى ازدهار وتطور كبير لمستوى معيشة المواطن العماني بكل جوانبها.
ويعد ذلك ثمرة من ثمار الفكر المستنير للسلطان قابوس وحرصه على رعاية المواطن العماني، وتوفير كل أسباب التقدم والتطور أمامه، وإعداده تعليميا وثقافيا وتدريبيا ليقوم بدوره الأساسي كشريك وكطرف أصيل في صياغة وتوجيه التنمية الوطنية في كل المجالات باعتباره وسيلة التنمية وغايتها.
aXA6IDE4LjIyNC41OS4xMDcg جزيرة ام اند امز