الدور القطري في القرن الأفريقي.. أوهام القيادة
التحرك القطري المشبوه في القرن الأفريقي ينطلق من دوافع عديدة؛ أهمها التخلص من عقدة الدولة الصغيرة وحماية نظامها السياسي المتداعي.
تعد المصالح الوطنية للدولة هي البوصلة التي توجه سياستها الخارجية، فتحدد دوائر حركتها، والأدوات والموارد التي يتم توظيفها لتحقيق وصيانة وتعزيز مصالحها، في ضوء مقدراتها القومية وموقعها الجغرافي ومكونها السكاني والاجتماعي، وكذا بالقياس إلى حسابات الرشادة والتكلفة والعائد.
لكن قطر تعد نموذجاً استثنائياً لتلك القواعد المتأصلة في العلاقات الدولية، وهو ما يتجلى من خلال رصد تحركاتها في إقليم القرن الأفريقي خاصة الصومال.
وسعت قطر لبناء شبكة من العلاقات مع دول الإقليم، واضعة في اعتبارها أهميته الاستراتيجية الفائقة، وإمكانياته الاقتصادية الواعدة؛ لكنها بدلاً من أن تركز على دعم مصالحها الوطنية سالكة الطرق المشروعة في العلاقات الدولية، فإذا بها تتحرك لممارسة أنشطة تخريبية هدامة، تنال من أمن واستقرار دول الإقليم، وتهدد مصالح قوى إقليمية أخرى، خاصة بالنسبة لمحور مصر والسعودية والإمارات.
دوافع التحرك القطري بالقرن الأفريقي
ينطلق التحرك القطري في القرن الأفريقي من دوافع عديدة؛ أهمها التخلص من عقدة الدولة الصغيرة، والانتقام من خصومها، والتغطية على مخططات القوى الدولية والإقليمية، وحماية نظامها السياسي المتداعي.
وتعد عقدة الدولة الصغيرة هاجساً دائماً يؤرق قطر؛ لذا فهي تسعى إلى الاصطفاف في "جملة مفيدة" مع دول أخرى تفوقها في المقدرات القومية، معتقدة أنها تساوت معها في المرتبة.
ويتأكد ذلك -على سبيل المثال- عند تحليل سلوكها العدائي ضد المصالح المصرية بالقرن الأفريقي، ومساندتها للموقف الإثيوبي خلال أزمة سد النهضة، متجاهلة تأثير السد على المصالح المائية المصرية التي ترقى لمرتبة المصلحة المصيرية، وأن الآثار السلبية للسد، وأهمها نقص المياه والكهرباء لن تقتصر تبعاتها على النظام المصري، وإنما تتجاوزه للتأثير في حياة المصريين حاضراً ومستقبلاً.
وتعتقد قطر أن القرن الأفريقي يمثل ميداناً مناسباً للانتقام من خصومها بتهديد مصالحهم في الإقليم، وقد ازداد هذا التوجه بسقوط جماعة الإخوان الإرهابية في مصر عام 2013، وانطلاق عملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين باليمن في مارس 2015.
كما تعد التحركات القطرية ستاراً للتغطية على مخططات القوى الدولية والإقليمية بالقرن الأفريقي، حيث يتماهى النظام القطري مع المصالح الأمريكية الإسرائيلية، كما تنضوي الدوحة في محور آخر مع تركيا وإيران اللتين تملكان من البرجماتية ما يدفعهما للتنسيق المشترك في القرن الأفريقي، كما حدث خلال أزمة استفتاء كردستان وفي الصراع السوري.
وبالفعل، كشف الموقف القطري من التحالف العربي المناهض للحوثيين عن دعمها الصريح للمصالح الإيرانية ضد دول التحالف، وهو ما تكرر بمساندتها للدور التركي بالصومال، ودعمها لمخطط تركيا في سواكن بالسودان، حيث تسعى أنقرة لإقامة قاعدة عسكرية بها، ما قد يهدد الاستثمارات الإماراتية والسعودية بموانئ البحر الأحمر والسلامة الإقليمية لمصر التي تبعد سواكن عن حدودها بمقدار 355 كم، وعن السد العالي بـ720 كم؛ وهو ما يغري تركيا بالتمركز فيها، رداً على التوجه المصري لتعزيز العَلاقات مع قبرص واليونان.
وهنا تتصور قطر أن الدفاع عن مصالح القوى الدولية والإقليمية بالقرن الأفريقي، يصب في خانة حماية نظامها السياسي الذي يعاني تآكلاً مستمراً في شرعيته السياسية، ما يدفعه للتحصن بسياج من الحماية الأجنبية لضمان البقاء والاستمرار.
ويمكن اعتبار أن قدرة النظام السياسي القطري على الاستمرار في السلطة رغم تداعيات المقاطعة العربية له تعود في الأغلب للمساندة التي يلقاها من الولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل.
أدوات التحرك القطري في القرن الأفريقي
سخرت قطر كل أدوات سياستها الخارجية بغية تحقيق أغراضها بالقرن الأفريقي، بداية من المساعدات الإنسانية، والاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، والتوسط في الصراعات الداخلية والنزاعات الإقليمية، وصولاً للدعاية السياسية، ودعم الحركات المتطرفة المحلية والأجنبية.
ففي الصومال، نشطت المؤسسات القطرية في تقديم مساعدات الإغاثة الإنسانية. لكنها لم تتورع عن توظيف المساعدات كسلاح لدعم الجماعات المؤيدة لسياستها ضد أطراف أخرى، وهو ما أفرغها من طابعها الإنساني، ووضع نظام الرئيس فرماجو في موضع الاتهام أمام شعبه، وأدى للوقيعة بين الحكومة الصومالية المركزية وحكومات الأقاليم.
كما عقدت قطر العديد من الاتفاقيات لدعم الاستثمار والتجارة مع دول القرن الأفريقي، وإقامة مشروعات البنية الأساسية. فتكفلت بإنشاء طريق يربط إريتريا بالسودان. وسعت لاستغلال جزيرة دهلك بإريتريا لإقامة منتجع سياحي. وأعلنت عزمها ضخ استثمارات بقيمة 500 مليون دولار بإثيوبيا، وزيادة استثماراتها بالسودان إلى 3,8 مليار دولار.
وفي خضم هذه التحركات، لم تتوقف الدوحة عن ممارستها غير المشروعة. والأمثلة عديدة في هذا المقام أبرزها تخطيطها لإنشاء أكبر ميناء حاويات بالبحر الأحمر في بورتو سودان وبناء ميناء هوبيو في منطقة دغن بوسط الصومال.
كما نشرت قطر قواتها بمنطقة رأس دوميرة المتنازع عليها بين جيبوتي وإريتريا، قبل أن تسارع بسحبها، إثر تأييد الدولتين لدول الخليج المقاطعة لقطر، ما دفعها لتوقيع بعض اتفاقيات التعاون الأمني مع دول الإقليم، مثل إثيوبيا والسودان. وهي اتفاقيات رمزية لا يتجاوز أثرها أكثر من إيصال رسالة للعالم بأنها ما زالت قادرة على الحركة وليست منعزلة. كما زوّدت قطر الصومال بالأسلحة، مخالفة بذلك حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة على الصومال.
استضافت قطر أيضاً مفاوضات تسوية الصراع في دارفور بالسودان، ما أسفر عن توقيع اتفاقية الدوحة. لكن الاتفاقية تعثرت فعلياً، بعدما انسحب منها بعض الأطراف، واتهموا الدوحة بالانحياز للنظام السوداني. ويبدو هنا أن قطر قد تناست حقيقة مهمة وهي أن الوساطة تحتاج إلى مؤهلات تفوق القدرات المالية وحدها. لذا كانت الدوحة أقرب إلى كونها "مضيفا للمفاوضات" وليس وسيطاً فيها.
لجأت قطر أيضاً لدعم جماعات التطرف الديني والإرهاب بالقرن الأفريقي وإثارة النزاعات بين دول الإقليم، حيث دعمت فصيل عبدالقادر مؤمن المنشق عن حركة الشباب المجاهدين، الذى يبايع تنظيم داعش منذ أكتوبر2015، والذي يتمركز قبالة خليج عدن. كما دأبت على تحريض السودان لأجل تصعيد النزاع بشأن حلايب. وقد تأكد هذا التوجه مع اتهام إريتريا لقطر بدعم الحركات المتشددة ضد نظامها، وتمويل حشود عسكرية سودانية إثيوبية بمنطقة كسلا، للاعتداء على أراضيها.
مدى فاعلية التحرك القطري
على الرغم من كثافة التحرك القطري واستخدام الدوحة لكل أدواتها المتاحة لتنفيذ مخططاتها بالقرن الأفريقي؛ لكنها لم تتمكن من تأسيس علاقات مستقرة بدول الإقليم؛ بل إن أكبر دولة وهي إثيوبيا لم تتردد في قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة عام 2008، احتجاجاً على تدخلها في شؤونها الداخلية ومساندة إريتريا ضدها، غير أن قطر ألحت في استئناف علاقاتها بإثيوبيا عام 2012 لاستغلالها كورقة للضغط على مصر.
وبالمثل، يتشكك الرأي العام بدول القرن الأفريقي في حقيقة الدور القطري في بلادهم، ودليل ذلك اندلاع المظاهرات ضد قطر بالصومال وإريتريا على غرار المظاهرات ضدها خارج القرن الأفريقي في مصر وليبيا وتونس حتى موريتانيا.
وبالنسبة للدور القطري في تسوية النزاعات والصراعات بالإقليم (جيبوتي-إريتريا، دارفور) فقد كان دوراً محدوداً ومؤقتاً، ولا يمكن مقارنته بالدور الإماراتي-السعودي، المدعوم مصرياً، في تسوية أقدم أو أكبر النزعات بالإقليم (النزاع الإثيوبي-الإريتري) الذي ظل يقوض الاستقرار السياسي والأمني بالإقليم منذ 1998؛ وهو ما مهد لتسويات نزاعات أخرى مثل النزاع بين إريتريا وجيبوتي.
وبعد، فإن التحركات القطرية بالقرن الأفريقي لم تعد تنطلي على أحد، بل إنها أضحت موضعاً للتندر فعندما اتهم البعض إريتريا بمعاداة العرب لرفض انضمامها للجامعة العربية كان الجواب حاضراً، بأن إريتريا لا تهدد المصالح العربية بذات القدر الذي تمثله قطر التي تتمتع بعضوية الجامعة العربية.. فهل حان الوقت لكي يستفيق النظام القطري أم أنه سيمضي في غيه وراء سراب القيادة التي لا يمتلك مؤهلاتها؟